محمد بن حمد البادي
عَرَّف الفنلندي الدكتور باسي سالبرج المعرفة المعزولة، على أنها المعلومات التفصيلية التي لا يحتاجها إلا أهل التخصص الدقيق، وللأسف نجدُ أن المناهج في مدارسنا تعجُّ بمعارف ودروس مغرقة بالتفاصيل، لن يحتاج إليها الطالب في دراسته ولا حتى في مستقبله الوظيفي؛ بل يضيّع جهده ووقته فيما لا طائل له، ولا فائدة مرجوة من ورائه.
هناك نماذج كثيرة لهذه المواد التي تحتوي على معرفة معزولة عن واقع الطلبة؛ فعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ تخصيص وحدة متكاملة في مادة الفيزياء التي تدرّس لطلبة الصف الثاني عشر للتحدث بشكل تفصيلي عن الفيزياء الذرية والانشطار النووي والانحلال الإشعاعي وعمر النصف، أو الشرح التفصيلي بغرض التفريق بين خاصيتي الأسموزية والانتشار في مادة الأحياء للصف التاسع، أو الحديث عن خصائص إحدى الكائنات البحرية التي تقبع في أعماق بعض المحيطات، والتي ربما يقضي الطالب حياته كاملة دون أن يراها.
لماذا نجبر الطالب على حفظ آلاف الأسماء لأشخاص أكل عليهم الدهر وشرب من صنّاع الفنون أو رواد الموسيقى في مادتي الفنون التشكيلية والمهارات الموسيقية، ماذا عساه أن يستفيد من ذلك في حاضره أو في مستقبله الدراسي والوظيفي؟ وغيرها العديد والعديد من المعارف التي تحتوي عليها المناهج التعليمية ليس في المدارس فحسب؛ بل يتخطاه ليدخل في نطاق التعليم الجامعي الذي يتم فيه استنزاف طاقات وجهود الطلبة بتدريسهم مواد تحتوي على معارف بعيدة بسنوات ضوئية عن مجال التخصص، أو التركيز على الجانب النظري بشكل مُبالغٌ فيه دون الجانب العملي؛ أو إنهاكهم بالمشاريع والبحوث التي لن يستفيد منها الطالب بعد التخرج.
يجب مراجعة سياسات وخطط وأهداف المنظومة التعليمية بما فيها المناهج الدراسية وتنقيتها من الشوائب والمعارف الزائدة؛ لتكون بسيطة وسلسة في متناول الطالب المتوسط دون تعقيد أو حشو زائد أو معارف القدرات العليا الزائدة عن الحد المقبول؛ ولتكون مرتبطة بالواقع الفعلي للطالب حاضراً ومستقبلاً؛ واعتبار ما زاد عنها مجرد معلومات لزيادة الاطلاع وليس شرطا أساسيا لاجتياز الاختبارات، والذي بدوره سينعكس إيجاباً نحو تعزيز خططنا الرامية لتقليل حجم الكتاب المدرسي؛ وبالتالي حقيبة مدرسية أخف وزناً، ويوم دراسي أقصر زمناً وخصوصاً في صفوف الحلقة الأولى، التي يجب التركيز فيها على القراءة والكتابة كأدوات حقيقية لتلقي المعارف.
حان وقت التركيز على استخدام أساليب الفهم والتحليل والاستنتاج بديلاً للأساليب التقليدية التي تعتمد على الحفظ والتلقين وحشو الأدمغة بمعارف معزولة يتم نسيانها تلقائياً بعد انتهاء الحاجة إليها. آن الأوان للتركيز على الممارسات التعليمية العملية لتطبيق المعرفة خارج الغرف الدراسية، والتقليل من الأساليب النظرية التي لا تؤدي إلى ترسيخ المعلومة في ذهن الطالب.
كما يجب التركيز على تطوير مهارات المعلم بشكلٍ مُستمرٍ ليتمكن من استخدام طرائق تدريسية موائمة للموقف التعليمي كالطريقة الاستنتاجية والاستقرائية والاستنباطية والاستدلالية لتحقيق أهداف الموقف التعليمي من خلال ربط المادة الدراسية بواقع الطالب لمساعدته على الحصول على نتائج إيجابية.
ويتعين التركيز على الميول والاتجاهات والسمات الشخصية لدى الطالب، وتطبيق مقاييس صحيحة لمساعدته على اكتشاف ذاته، ثم توجيهه بشكل مثالي لتنميتها وصقلها، فكم من عبقري فارق مقاعد الدراسة باكراً؛ ثم ترك بصمة علمية فاقت كل التوقعات في مجال أحبه وأتقنه وعمل على تطوير مهاراته فيه، ولم يكن ذلك يوماً تقليلاً من شأن العلم ولا من أهمية المدرسة؛ إنما سعى بكل قوة لتوجيه طاقته نحو العلم الذي يتناسب مع ميوله وقدراته؛ وعمل بكل جد واجتهاد على تطوير ذاته؛ ليصل إلى مستويات عالية من الإبداع، حتى بات ما قدمه نبراسًا يضيء سماء الأجيال التي أتت من بعده.