كعبة العلم والمقاومة

صفحات مجهولة من تاريخ الأزهر الروحي

د. رفعت سيد أحمد

عندما يُذكر الأزهر الشريف تُذكر الهوية المصرية الأصيلة؛ إذ إنه بدوره وعلمه وشيوخه الكبار صار أحد أهم ملامح الشخصية المصرية وأحد أبرز قسماتها التاريخية... لماذا؟

لأن الأزهر بدوره العظيم خلال المائة عام الماضية- وهي عمره وتاريخه الحقيقي- كان له وما زال أدوار روحية خالدة، قاوم فيها شتى تيارات الإلحاد والانحرافات والمذاهب الهدامة والحملات التبشيرية ودعاة الفوضى والانحلال. وتصدى للإرهاب الفكري والغلو الديني (نموذج داعش والقاعدة والإخوان) وأدعياء المذاهب الهدامة، واستطاع أن يحفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره، كما حمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، وقام بدور كبير في نشر لغة القرآن ومبادئ الإسلام في كثير من الأمصار.

وعمل- وما زال- على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر ورقي الحضارة وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا والآخرة ويحاول دائماً تأكيد وتأصيل المبادئ والقيم الروحية. ولهذا كان الأزهر مقصد طلاب العلوم العربية والثقافات الإسلامية في شتى أنحاء العالم كما كان مصدر الدعوة إلى مختلف الأمم والشعوب، وهو الآن ملتقى آلاف الطلاب من أنحاء العالم، كما إنه مصدر مئات العلماء إلى مختلف القارات .

يحدثنا التاريخ أن الأزهر كان ملاذًا لعامة الشعب، يهرعون إليه في الأزمات ملتمسين من علمائه الإرشاد والتوجيه ملقين إليهم بالقيادة الرشيدة الحكيمة فيجدون لديهم المقاومة الحقة للظلم وعندهم يتم تفريج الكربات وحل الأزمات ومواطن الأمان وسكينة النفس وراحة القلب.

وكثيرًا ما كان علماء الأزهر يقفون في وجه الطغاة المستبدين من الحكام وكان عامة الشعب إذا وقع عليهم حيف أو دهمهم اغتصاب هرعوا جماعات إلى الجامع الأزهر في هتاف وصياح وخلفهم النساء والصبيان، ثم تصعد جماعة منهم إلى مأذنته مستصرخين الناس، فيفض العلماء حلقات الدراسة، ويغلقون أبواب الأزهر ويستمعون إلى شكاوي المستغيثين ثم يؤلفون وفدًا منهم لمقابلة الحكام المستبدين وإنذارهم بالثورة المدمرة . فلا يلبث هؤلاء أن يتراجعوا صاغرين نادمين.

كما كان علماء الأزهر يلفتون نظر الحكام وينبهونهم إلى أن طاعة الحاكم واجبة، إذا لم يخالف الشرع، وأن قاعدة الحكومة الإسلامية أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

يحدثنا التاريخ عن الصفحات المجهولة من التاريخ العظيم للأزهر، عن بعض تلك المواقف للأزهر وعلمائه الكبار؛ ومنها أحد المواقف التي صب فيها الشيخ الأزهري الكبير "علي الصعيدي" غضبه على الأمير يوسف بك الكبير وفي وجهه، ولعن من باعه. ومن اشتراه، ومن جعله أميرًا، فاسترضاه الأمير ونزل على مشورته. وأخذ بآرائه.

وقد ذكر الجبرتي مواقف أخرى رائعة للأزهر، نذكر بعضها:

موقف أول: ذكر الجبرتي في تاريخه أن الحاكم حسين بك المعروف بـ"شفت" كان رجلاً طاغية جباراً يُصادر أموال الرعية ويتهجم على البيوت، وأنه ذهب بجنوده إلى بيت أحمد سالم الجزار شيخ دراويش البيومي، فنهب ما فيه حتى الفراش وحلي النساء، فحضر أهل الحسينية إلى الجامع الأزهر، ومعهم الطبول وألتف حولهم العامة، وبأيديهم العصي وتفرقوا في أنحاء الأزهر وأغلقوا أبوابه، وصعد بعضهم إلى مآذنه يصيحون ويضربون الطبول، وانتشر فريق منهم في الأسواق القريبة من الأزهر في حالة منكرة ثم قابلوا الشيخ الدردير. فذكروا له ما حدث فغضب لحرمات الله وقال لهم: في غدٍ نجمع أهل الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة، وأركب معكم وننهب بيوت المماليك كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم، فارتاع المماليك وأوفدوا رسلهم إلى الشيخ الدردير نادمين طالبين إليه أن يرسل قائمة بما نهبه حسين بك وجنوده ليردوه إليه وفعلاً ردوا إليه جميع ما اغتصبوه.

موقف ثان: حدث يومًا والشيخ الدردير في مولد السيد البدوي أن صادر أحد الحكام أموال بعض الرعية، فطلب من بعض أتباعه أن يذهبوا إلى هذا الحاكم ليطلبوا إليه رد الأموال المغصوبة، ولكنهم خشوا أن يذهبوا إليه فركب الشيخ بنفسه وتبعه كثير من العامة حتى دخل خيمة هذا الحاكم وهو راكب بغلته، وأغلظ له القول فاضطر إلى إرضائه وإرجاع ما اغتصبه من أموال.

موقف ثالث: في سنة 1209هـ (1795م) حدث عدوان من أمراء المماليك على بعض فلاحي مدينة بلبيس، فحضر وفد منهم إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي فغضب وتوجه إلى الأزهر، فجمع شيوخه وأغلقوا أبوابه وأمروا الناس بترك الأسواق والمتاجر، وركب الشيخ في اليوم التالي وتبعهم كثير من الناس إلى بيت الشيخ محمد السادات واحتشدت جموع عديدة من الشعب، فأرسل اليهم الأمراء أحدهم، وهو أيوب بك الدفتردار. فسألهم عن أمرهم. فقالوا: نريد العدل ورفع الظلم والجور واقامة الشرع وابطال الحوادث والمكوسات (أي الضرائب). وخشى إبراهيم بك زعيم الأمراء مغبة الثورة. فأرسل إلى العلماء- وكانوا يقضون ليلتهم داخل الأزهر- قائلاً لهم: إنه يؤيدهم في غضبهم ويبرئ نفسه من تبعة الظلم، ويلقيها على كامل شريكه مراد بك، وأرسل في الوقت نفسه إلى مراد يحذره عاقبة الثورة واستسلم مراد بك، ورد ما اغتصبه من أموال، وأرضى نفوس المظلومين.

لكن العلماء لم يقتنعوا بهذا؛ بل أصروا على وضع نظام يمنع الظلم ويرد العدوان، فاجتمع الأمراء وأرسلوا إلى العلماء، فحضر منهم الشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير، وكان هؤلاء رُسل الثورة وقادتها، وطال الجدل بين الشيوخ والأمراء، ثم انتهى أن أعلن الظالمون أنهم تابوا والتزموا ما اشترطه عليهم العلماء، وأعلنوا أنهم سيبطلون المظالم والضرائب المحدثة، ويأمرون أتباعهم بالكف عن سلب أموال الناس، ويرسلون أوقاف الحرمين الشريفين والعوائد المقررة اليهما، ويسيرون في الناس سيرة حسنة، وكان قاضي القضاة حاضرًا هذا المجلس فكتب على الأمراء وثيقة أمضاها الوالي العثماني وإبراهيم بك مراد، وكانت بمثابة وثيقة كبرى في مجال حقوق الإنسان بمعايير زماننا هذا.

خلاصة القول إن الأزهر لم يكن كعبة للعلم فحسب؛ بل منارة للحق والعدل والدور الاجتماعي المؤثر أيضًا، ونحسب أنه سيظل كذلك لأنه بما ضم بين جوانحه من علماء وفقه وفكر وسطي معتدل، فإنه سيظل له حافظًا من الشطط والغلو ومن العزلة عن الناس وهمومهم.