د. عبدالله باحجاج
عنوان المقال أعلاه، هو خلاصة نتيجة جدلية ينبغي أن تفهم ضمن سياقات هذا المقال، والنتيجة قد استخلصتها من الواقع الذي يعيشه الشباب، وهو واقع يُجرِّم تعاطي المخدرات وتجارتها، وقد تم تغليظ عقوباتها مؤخرًا ليصل حدها الأقصى إلى الإعدام، مع مرونة قانونية بشروط لدواعي الإصلاح، عبر إسقاط الدعوى الجنائية على المدمنين حال تقدمهم للعلاج لتشجيع المتعاطين على استدراك الأخطاء والعودة الطبيعية للمجتمع، هذا التشريع الوطني هو الذي ينبغي أن يُبني عليه الواقع بكل تفاصيله، ويكون حاكمًا للقوانين والقرارات الإدارية التي تنظم المجتمع المدني أو التجاري في كل المحافظات.
لكن هذا الواقع يظهر في وادٍ سحيق عن ذلك التشريع وغاياته، وفي مسارات منه- أي الواقع- بدت لي أنها تنتج الحالة السيكولوجية والاستعداد الذهني والجسماني لسقوط الشباب في براثن المخدرات، مما بدأت جهود مكافحة المخدرات بتشريعاتها المغلظة ودوافعها الاجتماعية غير متناغمة مع الواقع المدني من منظورنا الإقليمي على الأقل؛ بل أرى هذا الواقع في تردٍ بعد جهود متواضعة مورست سابقًا، والآن ترجع الأمور إلى مربعها الأول.
هذه المسارات هي انتشار محلات بيع التبغ في الأحياء السكنية بالقرب من المدارس والمساجد، وحتى تلكم المحلات التي أغلقت تحت ضغوط الكتابات الصحفية، قد عادت مجددًا تبيع تبغها في أمكنتها السابقة، لماذا؟ ربما لأن المسؤولين قد أحيلوا للتقاعد الإجباري، وجاء جدد ليس لديهم علم بالخلفيات، وربما لا تشكل مثل هذه القضايا أهمية أو أولوية لدى المجلس البلدي في ظفار، وقد كنت سابقًا قد تناولت هذه الظاهرة في عدة مقالات منشورة، وأوضحت طرق ووسائل إغراءاتها للمستهدفين في إطار مكان السماح بإقامتها، ووقفت ميدانيا آنذاك على تعاطي أطفال للجرعة الأولى من التدخين المجانية التي تمنحها هذه المحلات كوسيلة لجذب الزبون، وإغراقه فيها.
والإثارة فيها، شعاراتها التي كانت ترفعها على محلاتها من الداخل والخارج مثلا "لدينا أفضل أنواع الدوخات والمداوخ" وكذلك "لدينا دوخة إيرانية، ودوخة فلبينية، ودوخة هندية، ودوخة بمزاج خاص .. إلخ"، وقد لاقت مقالاتي استجابة محدودة من بلدية ظفار، فشهدنا إغلاق الكثير من المحلات، رغم أنه كان يستوجب تحديث قوانينها وزيادة فعالية أُطرها الرقابية، لحماية الأطفال والشباب من تجار هذه السموم، فلماذا عادت المحلات التي أغلقت؟ ولدي نماذج لها رصدتها من الميدان.
وهنا نوجه رسالتين عاجلتين إلى: أولًا: بلدية ظفار؛ مفادها، أنه في الوقت الذي كنت أتوقع تشديد حملات إغلاق محلات الدوخات والمداوخ داخل الأحياء السكنية وبالقرب من بعض المدارس، شهدنا العكس عودة المحلات القديمة إلى العمل وفي مواقعها التي تم إغلاقها، لماذا؟ هل اكتشفت خطأ الإغلاق أم أنها من القضايا المنسية؟
ثانيًا: إلى أعضاء المجلس البلدي، إذا لم تنشغلوا بهكذا قضايا مصيرية، وهي في صلب صلاحياتكم البلدية، فماذا أنتم الآن منشغلون به؟ وما هو الأهم من مستقبل جيلنا عندكم؟ أنتم صناعة المجتمع عبر صناديق انتخابات حرة، وهذه من كبرى القضايا الاجتماعية، وندعوكم إلى أن تتصدر هذه القضية أولى اهتماماتكم الآن.
لا يمكن التقليل من محلات الدوخات والمداوخ داخل الأحياء السكنية، فحجية عامل السن المسموح به للدوخات، لا يحترم من قبل هذه المحلات، وكيف نتوقع احترامه، وهي تبيع دوخاتها بالقرب من المدارس والمساكن؟ فهي لن ترفض الطلب مهما كان مصدره أو عمره، وهنا التساؤل الكبير، ونطرحه من منظور الدراسة في البحث عن الأسباب والمسببات لوجود المخدرات في بلادنا عامة، وظفار خاصة، فهل هناك علاقة بين المخدرات ومحلات بيع الدوخات والمداوخ؟ إذا لم تكن هذه العلاقة موجودة الآن، فينبغي التفكير فيها في الأجل القصير، فطبيعة المرحلة الراهنة بضغوطاتها وقلقها المعروفة نتيجة التحولات المالية والاقتصادية، وعدم كفاية المرتبات لتلبية كامل الاستحقاقات الأسرية، تجعل حتى سيكولوجية الكثير من الأطفال والشباب بل وكبار السن مهيأة لأسوأ الاحتمالات.. إلخ.
وما يُرى أمام المشاهدات العامة من إغراءات تحت ضغوط قهرية سيكولوجية أو معيشية، قد تضعف مقاومة الكثير بمن فيهم الشباب والأطفال؛ سواء من منظور التجربة أو البحث عن دوخة تخفف دوخة الرأس الناجمة عن الضغوط الحياتية، وما أكثر، والقادم أخطر!
هذه سيناريوهات نطرحها حتى نُلم بكل جوانب القضية التي أطرحها الآن، ففي أية لحظة ضعف، سيكون خيار الأسوأ متاحًا فورًا، لن تبحث عنه بعيدًا، ولن تفكِّر في وسيلة نقل للذهاب إليه، فما عليها إلا أن تمشي عدة أمتار وتجرب الجرعة الأولى المجانية، وهي بمثابة الطعم لابتلاع توالي الدوخات المدفوعة الثمن لاحقًا، مما سيدخلها حتمًا في عالم الظلام، قد تبدأ معه بمراحل تدرجية حتى تصل الى مستويات الترويج أو التجارة.. مما ستجد نفسها عاجلًا أم آجلًا أمام عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد.
كلنا اطلعنا الأسبوع الماضي على عملية إحباط تهريب مليون وثمانمائة ألف حبة مخدرات بالتعاون الثنائي بين شرطة عمان السلطانية ونظيرتها في السعودية، ولنتصور لو مررت هذه الكميات لداخلنا العماني في ظل تلكم البيئات المنتجة لسيكولوجية التعاطي أو سيكولوجية الدائخ من ضغوط الحياة المعيشية المعاصرة، وهنا يستوجب تقديم الشكر والتقدير لشرطة عُمان السلطانية على جهودها في مكافحة المخدرات، وما تلكم العملية إلا نموذج من عدة نماذج سنوية؛ بل وتكاد تكون يومية ضمن حروبها ضد المخدرات، حفاظًا على سلامة المجتمع، وينبغي أن تتوافر لها كل الإمكانات المختلفة، بما فيها المالية والكوادر والأطر لاستدامة نجاحها وتفعيله في ظل جغرافيتنا المعقدة بسواحلها الطويلة وجبالها ووديانها التي تستنزف الجهود والأموال.
الكرة الآن في المعلب البلدي بجناحيه الحكومي والشعبي في ظل القانون الجديد للمحافظات والبلديات، ونراهن الآن على الثنائية الرئاسية للمجلس، الأولى معينة برئاسة السلطة المحلية، والثانية منتخبة من المجلس، وهذه الهندسة الرئاسية للمجلس البلدي، ينبغي أن تُشكّل ضمانة لإصلاح الكثير من الأوضاع ومن بينها هذه القضية.