هل نحن جادون في محاربة الفساد وحماية المال العام؟!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

الفساد المالي حديث الساعة في هذا العالم، خاصة الدول التي فيها قيادات واعية وحكيمة، وتتمتع بضمير حي وبصيرة نافذة نحو تحقيق مستقبل مشرق لجميع أفراد المجتمع وعلى وجه الخصوص الفقراء، ومحاربة الفساد أصبح فرضًا واجبًا وليس سنة مستحسنة! ولا يمكن أن يقوم بذلك بعض الأفراد ويسقط عن الآخرين، بل يجب أن تتضافر كل الجهود لمحاربة هذه الآفة السرطانية المدمرة التي تنخر في بعض وزاراتنا وشركاتنا الحكومية بدون رقيب أو حسيب؛ إذ يعمل هؤلاء الفاسدون من خلال فرق عمل منظمة وأفراد يتربصون في جنح الظلام للاستيلاء على المال العام دون وجه حق.

لا شك أن هناك جهودا مقدرة تبذلها الأجهزة المختصة بالرقابة المالية والإدارية والضبط القضائي في البلاد، والمتمثلة في جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة والادعاء العام؛ حيث حققت هذه الأجهزة الرقابية إنجازات نثمنها جميعًا في مجال محاربة الفساد واستعادة المال العام. ولعلنا نتذكر جميعًا نجاح جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في استرجاع 340 مليون ريال عماني لخزينة الدولة خلال عامي 2010 و2011. وعلى كل الأحوال لا يمكن القضاء على الفساد وضبط المخالفين للقوانين والأنظمة المعمول فيها لحماية المال العام، من خلال الرقابة الرسمية في أي بلد في العالم فقط، مهما تطورت هذه الأجهزة في العدد والعدة ووضع التشريعات والقوانين؛ بل يجب نشر واعتماد ثقافة النزاهة والشفافية واختيار المسؤولين الذين يتمتعون بسمعة رفيعة وأخلاق حميدة وضمير حي لتقلد المناصب الكبيرة التي تشرف على الموازانات وتعتمد المناقصات والمشاريع والخطط التنموية في البلاد، ومن خلالها تقرر مصالح المواطنين ومصير المجتمع بشكل عام، خاصة قطاعات التعليم والصحة والعمل. فالوظيفة العامة يجب أن تكون تكليفًا قبل أن تكون تشريفًا للمسؤول الذي أتى ليخدم الناس ويسهّل مصالحهم؛ وليس لكسب النفوذ وجمع المال بكل الطرق لتحقيق الثراء السريع قبل الرحيل من المنصب.

كما إن الإعلام يمكن له أن يؤدي دورًا محوريًا في كشف المستور من المخالفات المالية والفساد الإداري بشكل عام وخاصة السلطة الرابعة (الصحافة) التي يُفترض أن تقوم بدورها الرقابي المعهود في مراقبة أداء الوزراء ووكلاء الوزارات ورؤساء التنفيذيين في الشركات الحكومية، الذين يخدمون الشعب، وذلك من خلال نشر ما يعرف بالتحقيقات الاستقصائية الرصينة؛ التي يمارسها فريق متخصص ومدرب من الصحفيين المؤهلين في هذا المجال المهني المهم. لكن يجب الاعتراف بحاجتنا إلى تشريعات إعلامية جديدة، واضحة المعالم تحترم حرية الصحافة وتحمي الصحفي وتسمح له بالحصول على المعلومات والأخبار التي يحتاج لها المجتمع ويتوقعها دائمًا من الصحافة الحرة الملتزمة بالمسؤولية الاجتماعية التي تحترم خصوصية الأفراد وحياتهم الخاصة دون تفريط في الحقائق التي تكشف عن التجاوزات، التي قد تحدث من بعض المتنفذين في الدولة. لا شك أن حجب الموازنات السنوية ومنع الصحافة من الاطلاع على أرقام الموازنة العامة السنوية للدولة والاكتفاء بعرضها على أعضاء مجلس الشورى في جلسة سرية؛ يعكس عدم شفافية الجهات المختصة في هذا الجانب، فتلك المعلومات والأرقام التي تُمنع سنويًا عن الصحافة ثم تنشر في فترة لاحقة في موقع وزارة المالية لهو أمر مستغرب! فالحكومة كشفت ما لها وما عليها من خلال خطة التوازن المالي، فماذا نُخفي عن الصحافة والشعب في زمن الانفجار المعرفي والسماوات المفتوحة؟!

يجب التأكيد أنه لا يمكن للإعلام والصحافة- كسلطة رابعة- أن يتناغم مع الأحداث ويقوم بدوره الرقابي إلا في ظل وجود الجناح الآخر للحرية والمراقبة، والمتمثل في مجلس الشورى، هذا المجلس الذي أصبح ناضجًا، وتجاوزت تجربته البرلمانية عقودًا ثلاثة، وعلى الرغم من عدم وجود تعاون كامل بينه وبين السلطة التنفيذية طوال العقود الثلاثة الماضية، فإن دوره الرقابي ومناقشته الجادة للكثير من الأطروحات المقدمة، قد ساعد على تراجع الفساد المالي في السلطنة. لذا أصبح من الضروريات في هذه المرحلة منح مجلس الشورى بكامل أعضائه الحق في استجاوب المقصّرين من الوزراء والمستشارين والمسؤولين التنفيذيين في مختلف الوزارات بلا استثناء لتكريس الرقابة البرلمانية وترسيخ حقوق المواطنين الذين صوتوا لهؤلاء الأعضاء وأوصلوهم إلى البرلمان. هناك بوادر إيجابية وأخبار سارة قد أثلجت صدورنا جميعًا، ويتمثل ذلك في جهود السلطنة في محاربة الفساد المالي والإداري؛ إذ وافق مجلس الوزراء الموقر مؤخرًا، على دراسة تعديل قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح الصادر بالمرسوم السلطاني  رقم 112/ 2011. وقد جاء هذا الإقرار في تعديل تلك القوانين السارية نتيجةً لما وعد به جلالة السلطان- حفظه الله رعاه- في خطابه الثاني في فبراير 2020، والثالث في نوفمبر من العام ذاته، حول عزم حكومة جلالته على محاربة الفساد، وترسيخ دولة المؤسسات والقانون على هذه الأرض الطيبة.

يبدو لي أنَّ السلطنة بحاجة بالفعل إلى قوانين رادعة للذين يتجرأون على نهب أموال الدولة، مع تغليظ العقوبات في هذا الجانب؛ فالقوانين المعمول بها والمطبقة في الوقت الحالي خاصة منذ 2011 لا تتناسب وحجم المخالفات والجرائم المالية التي قد ترتكب من البعض، فالعقوبات في تلك المواد لا تتجاوز السجن بين ثلاثة أشهر وثلاث سنوات كحد أقصى، وتسريح من الوظيفة، بينما في كثير من الدول العالم عقوبات استغلال الوظيفة قد توصل صاحبها إلى حبل المشنقة كما هو الحال في جمهورية الصين الشعبية.

وفي الختام.. لقد أصبحت دول عدة من حولنا تُصنف بالدول الفاشلة بسبب الزعم بأنها فقيرة، وفي واقع الأمر لا توجد دولة فقيرة في هذا العالم، لكن يوجد فاسدون تولّوا إدارة بعض الدول التي تُنعَت بأنها فقيرة، وقد ساعدت هذه الظروف هؤلاء المسؤولين على نهب الموارد الطبيعية وتحويلها إلى الخارج. وعليه يجب أن نعمل جميعًا من أفراد ومؤسسات على المحافظة على المال العام في هذا البلد العزيز، وقد يكون أحد الفاسدين موظفًا حكوميًا صغيرًا أو مقاولًا في إحدى شركات القطاع الخاص، وليس فقط الذي يتولى المنصب الرفيع!

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري