النشاط البدني والتنمية المستدامة

 

د. هدى بنت خلفان السيابية **

 

تعد الصحة بمفهومها الشامل حجر الزاوية في مسعى الحكومات للوصول إلى تنمية شاملة ومستدامة باعتبارها هدفاً أساسياً  لا بدَّ من تحقيقه لشعوبها، ومن هنا تمَّ إيلاء المدخل الصحي اهتماماً استثنائياً في أي عملية تنموية، الأمر الذي تحوَّل إلى برنامج عمل دولي بدأ مع هدف الصحة للجميع بحلول عام 2000، الهدف الذي واجه تحقيقه العديد من الصعوبات، أبرزها ضعف التعاون القطاعي ومشاركة المجتمع المحلي، ليتم بعد ذلك صياغة الأهداف الإنمائية للألفية التي تمَّ الالتزام بتحقيقها بنهاية عام 2015.

لكن نتيجةً للعمل الدؤوب والحراك التنموي على المستوى العالمي، ومع ازدياد التحديات التي تواجه المجتمع الدولي على مختلف محاور ومجالات التنمية المستدامة، فقد حصلت تغيرات جذرية نتج عنها إعادة صياغة مستمرة للمرامي والأهداف التنموية،  وتمخَّض هذا الحراك العالمي عن تبني معظم دول العالم لأهداف التنمية المستدامة في عام 2015؛ تلك الأهداف السبعة عشر التي  أطلقتها الأمم المتحدة كأحد أكبر برامج التشاور في تاريخها، وتهدف للتركيز على التنمية ضمن أبعادٍ ثلاث هي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. تبنَّت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تلك الأهداف في 25 سبتمبر 2015 أثناء انعقاد الجمعية العامة في نيويورك، وبدأ العمل بها مطلع عام 2016 على أن يتم تقييم ما تنفيذه في ذلك السياق بنهاية عام 2030، تتضمن أهداف التنمية المستدامة مرامي وغايات ومؤشرات أبرز مخرجاتها النهائية تعزيز الصحة، والقضاء على الفقر والجوع، وتحقيق المساواة وتوفير فرص التعليم، بالإضافة إلى مواجهة التحديات البيئية.

هذا، وبات من المؤكد أن التنمية يجب أن تتجاوز النمو الاقتصادي وتضمن العدالة الاجتماعية والاستقرار البيئي وأن مواجهة التحديات المختفة تطلب المشاركة المجتمعية والتنسيق بين القطاعات.

إن أحد أبرز هذه التحديات الصحية التي توجهها الدول هي الأمراض المزمنة غير المعدية مثل أمراض القلب والأوعية الدموية و السكري، و السرطانات إلى جانب أمراض الجهاز التنفسي المزمنة وغيرها والتي تشكِّل عبئاً اجتماعياً واقتصادياً لما تسببه من ارتفاع على مؤشرات المراضة والوفيات، ولو تعمَّقنا بتحليل الأسباب الكامنة خلف تلك الأمراض لوجدنا ارتباطها الوثيق بنمط حياة أفراد المجتمع لا سيَّما الخمول البدني، والتغذية غير السليمة، واستخدام التبغ وغيرها من عوامل الخطورة المعروفة.

ويصنَّف الخمول البدني على أنه السبب الرابع للوفيات المبَّكرة عالمياً، وهو أحد عوامل الاختطار الرئيسية للإصابة بداء السكري وأمراض القلب والجهاز الدوري وبعض السرطانات كسرطان القولون، لذا فقد أولت غالبية دول العالم تعزيز النشاط البدني اهتمامها بمختلف أشكاله وجوانبه، لما له من أثر إيجابي ملحوظ في التقليل من الوفيات الناجمة عن الأمراض المزمنة غير المعدية، وبذلك يساهم بشكل مباشر في التنمية الصحية والاجتماعية والاقتصادية.

وتعد ممارسة النشاط البدني بانتظام ذات فوائد عديدة تشمل الجسم بمختلف أجهزته  كالقلب، والرئتين والجهاز التنفسي، بالإضافة للجهاز العصبي والعضلات والمفاصل والعظام وغيرها، وزيادة على ذلك علاقة النشاط البدني المؤكدة بالصحة النفسية؛ ويمكن لنا التأكيد على تأثير النشاط البدني في الحد من الوفيات والمراضة الناجمة من الأمراض غير المعدية؛ إن زيادة مستويات النشاط البدني لدى أفراد المجتمع يترافق مع منعكسات إيجابية ذات تأثير بشكل غير مباشر على صحتهم العامة مثل الحد من الازدحام المروري والتلوث الضوضائي وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتوطيد العلاقات الاجتماعية والحد من السلوكيات الخطرة عند الناس بما يسهم في مجمله بزيادة الإنتاج وتحسين نوعية الحياة.

لذلك فإنَّ الاستثمار في تعزيز أنماط الحياة الصحية متضمناً ذلك السياسات والتدخلات التي تعزز ممارسة النشاط البدني، تساهم بشكل فعَّال في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. إنَّ إلقاء نظرة على الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة المتضمن القضاء التام على الجوع وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة وتعزيز الزراعة المستدامة، نجد أن تعزيز النشاط البدني يساهم في تحقيق المرمى الثاني (وضع نهاية لجميع أشكال سوء التغذية) من خلال دوره في المحافظة على الوزن الصحي وتخفيض الوزن الزائد والسمنة التي تعتبر من أشكال سوء التغذية. كذلك فإن تعزيز النشاط البدني يساهم بشكل مباشر في تحقيق الهدف الثالث بمعظم مراميه حيث ينص على ضمان تمتُّع الجميع بأنماط عيش صحية، وبالرفاهية في جميع الأعمار من خلال دوره في تحقيق المرامي الثالث والرابع والسادس المتضمنين تخفيض الوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض غير المعدية بمقدار الثلث من خلال الوقاية والعلاج وتعزيز الصحة والسلامة العقليتين، وخفض عدد الوفيات والإصابات الناجمة عن حوادث المرور، كما إنه يساهم في تحقيق المرمى الثامن الخاص بالوصول إلى التغطية الصحية الشاملة، والتاسع على الحد بدرجة كبيرة من عدد الوفيات والأمراض الناجمة عن التعرّض للمواد الكيميائية الخطرة  وتلوّث الهواء والماء والتربة.

إضافة إلى ذلك فإنَّ تطوير البرامج الخاصة بالأنشطة البدنية في المدارس والجامعات يساهم بفعالية في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة "ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع"، وخاصةً من خلال المرمى الأول الذي ينص على ضمان أن يتمتّع جميع البنات والبنين بتعليم مجاني ومنصف وجيّد، مما يؤدي إلى تحقيق نتائج تعليمية ملائمة وفعَّالة، كذلك فالمرمى الثامن المتضمن بناء المرافق التعليمية التي تراعي الفروق بين الجنسين، والإعاقة، والأطفال، علاوة على أنَّ الأنشطة البدنية والرياضية بأبسط أشكالها تشجِّع على المشاركة المتوازنة، ولديها القدرة على تعزيز المساواة بين الجنسين المنصوصة في الهدف الخامس الذي يلزم العمل على تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات. كما إنَّ مشاركة النساء والفتيات في البرامج الرياضية تمكنهنَّ من إظهار مواهبهن وقدراتهن في المجتمع الأمر المعزز للثقة بالنفس، والمحفِّز على تحقيق الانجازات. ونذكر أن الرياضات الجماعية تتيح أيضاً فرصاً للتفاعل الاجتماعي والصداقة ولها العديد من الفوائد الاجتماعية والنفسية للأفراد وللمجموعات على حد سواء.

وتمثل السياسات المعززة للنشاط البدني الموضوعة من قبل الحكومات عاملاً مساعداً في تحقيق المرامي الخاصة بالهدف الحادي عشر "جعل المدن والمستوطنات البشرية مستدامة وآمنة وقادرة على الصمود"، من خلال المساهمة في تحقيق المرامي الثاني والثالث اللذين ينصان على توفير إمكانية وصول الجميع إلى نظم نقل مأمونة وميسورة التكلفة ومستدامة ويسهل الوصول إليها، وتحسين السلامة على الطرق من خلال توسيع نطاق النقل العام وتعزيز التوسع الحضري الشامل للجميع والمستدام، والقدرة على تخطيط وإدارة المستوطنات البشرية في جميع البلدان. أما المرمى السادس بذات الهدف فيضمن الحد من الأثر البيئي السلبي الفردي للمدن. وينص المرمى الثامن على توفير سبل استفادة الجميع من مساحات خضراء وأماكن عامة آمنة وشاملة للجميع ويمكن الوصول إليها خاصة للنساء والأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، وبدوره بالمرمى الثامن يؤكد دعم الروابط الإيجابية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بين المناطق الحضرية والمناطق المحيطة بها من خلال تعزيز تخطيط التنمية الوطنية والإقليمية.

إنَّ الانخراط في الأنشطة الرياضية التنافسية له أيضاً دور في إقامة شراكات قوية ومتماسكة بين أفراد المجتمع، وهو أمر أساسي يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فالعالم أصبح أكثر ترابطاً ممَّا كان في أي وقت مضى، وللرياضة، كظاهرة عالمية، القدرة على ربط الشبكات المؤثرة التي تضم شركاء وأصحاب مصلحة متباينين يجمع بينهم التزام بالتنمية الدائمة.    

وفي هذا الصدد، باستطاعة عالم الرياضة أن يوفر شبكات قوية، تضم شركاء وأصحاب مصلحة، ملتزمة بتسخير الرياضة لأغراض التنمية المستدامة، وبذلك نحقق الهدف السابع عشر "عقد الشراكة من أجل تحقيق الأهداف".

ختاماً.. لا يسعنا سوى القول إنَّ الاستراتيجيات المعززة للنشاط البدني هي خير شاهد يمكن إثبات مساهمتها بتحقيق أهداف التنمية المستدامة ، ومن الجيد النظر لتلك الاستراتيجيات على أنها تصبح في وقت من الأوقات جزءاً لا يتجزأ من خطة العمل لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وإنَّ الالتزام بتحقيق الأهداف الصحية الوطنية الذي يتقاطع ضمن مساحات واسعة ومشتركة مع أهداف التنمية المستدامة، سوف يخفف من عبء الأمراض المزمنة غير المعدية، وزيادة توفر وسائل النقل العام وسهولة الوصول إليها، بالإضافة لزيادة المساحات الخضراء، والحد من تلوث الهواء وآثاره الصحية، وتخفيض من الإصابات والوفيات المرورية، فضلاً عن الحد من اللأمساواة الاجتماعية والاقتصادية وتحسين الصحة النفسية والحد من العنف والجريمة.

كل هذا بوجهة نظري يؤكد أهمية وضع برنامج عمل قطاعي يحقق التنسيق والتكامل بين كل الجهات المعنية لتوفير ما يضمن أفضل جـودة حياة لأفراد المجتمع.

** طبيب استشاري أول في الصحة العامة

مديرة دائرة المبادرات المجتمعية الصحية بوزارة الصحة

تعليق عبر الفيس بوك