علي الرئيسي
باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية
أحد الأصدقاء يسأل كيف ستواجه البلدان التي تمر بأزمات اقتصادية حادة، كلبنان حاليا، اليمن، تونس وسوريا وللأسف القائمة تطول للبلدان العربية المتأزمة والمأزومة. ماهي البرامج التي يمكن أن تساعدها في تجاوز أزماتها.
طبعاً سؤال كبير وخطير وبالتأكيد هناك من الخبرات العلمية والعملية في هذه الأقطار من هو في موقع أكثر علما ومعرفة لطرح برامج إنقاذ تقود هذه البلدان للخروج من أزماتها. ولكن خطر في بالي تناول كتاب الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس "البالغون في الغرفة"(Adults in the Room) الذي كان وزيرا للمالية في الحكومة اليسارية في اليونان وقت الأزمة الاقتصادية اليونانية.
في عام 2010 كانت اليونان، في أزمة مالية وكانت على شفا الإفلاس. كان إسراف الحكومات اليونانية، والتراخي المذهل للمقرضين بعد انضمام البلاد إلى العملة الأوروبية الموحدة في عام 2001 قد أدى إلى تراكم الديون، ولم تعد البلد قادرة على دفع خدمة الدين وخاصة في أعقاب الركود العالمي وتعتبر البلدان التي تمر بهذه الضائقة بأنها بلدان مفلسة أو تعرف باسم أزمات الديون السيادية، حيث يتم تخفيض قيمة العملة، والديون لا يتم سدادها ويتم تخفيضها أو شطبها. يمكن أن تكون هذه العملية مأساوية من حيث آثارها الاقتصادية والاجتماعية وخاصة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ولكن تسمح على الأقل ببداية جديدة.
الخروج من العملة الموحدة لم يكن خيارا متاحا في ذلك الوقت لليونان، لأن ذلك لم يخطر ببال المؤسسين لليورو، وهناك تخوف من أن خروج اليونان من العملة الموحدة سيتبعه اضطراب وفوضى اقتصادية قد لا يمكن التكهن بها. لذلك في مايو 2010 تدخلت المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي (الترويكا) بخطة إنقاذ بلغت 110 مليارات يورو.
ولم يكن الأمر بمثابة إنقاذ لليونان، وإنما في حقيقة الأمر إنقاذ لدائنيها. وخاصة البنوك الكبيرة المتعثرة أساسا في ألمانيا وفرنسا، والتي أقرضت اليونان ديونا كبيرة وتدرك أنه من المستحيل استعادة هذه الأموال. وبالتالي تم دفع هذه الأموال من الترويكا لهذه البنوك. وأصبحت اليونان الآن مدينة لهذه الترويكا (IMF,EC. ECB) التي فرضت برنامجا تقشفيا قاسيا، مما أدى إلى تدهور الاقتصاد اليوناني وجعل من المستحيل دفع هذه الديون والتي تتطلب أخذ مزيد من الديون وفرض المزيد من الشروط القاسية على اليونان.
الإغراق المالي ( Fiscal waterboarding ) هو الاسم الذي أطلقه عالم الاقتصاد بجامعة أثينا يانيس فاروفاكيس على هذه العملية، تمثيلا على عملية التعذيب التي تحاكي عملية الإغراق مرارا و تكرارا التي مارسها الأمريكان في العراق وأفغانستان وجونتامو. حيث يعتقد خبراء المخابرات أن هذه الطريقة لم تكن فعالة في الحصول على المعلومات، وكذلك كان من الصعب العثور على خبير اقتصادي أو مالي مستقل يعتقد أن سياسة الترويكا اتجاه اليونان كانت فعالة أو معقولة.
إذا لماذا استمرت هذه العملية، هذا السؤال الذي يحاول الإجابة عليه فاروفكيس الذي قضى ستة أشهر كوزير مالية لليونان في عام 2015، والذي على خبراء الاقتصاد في الدول التي تعانى من أزمات قراءته والتمعن فيه. ففي كتابه "البالغون في الغرفة"، معركتي مع المؤسسات العميقة الأوروبية والأمريكية، ورغم أن القارئ قد يتوقع الكثير من المكائد والمؤامرات، وفي حين أن الكتاب لا يخلو من ذلك، ولكن ما يصفه فاروفاكيس على المستوى الدولي أساسا، دراما حقيقية تذكرنا حسب النيويورك تايمز بمسرحية من تأليف اسخيلوس، أو شكسبير، حيث ينتهى الأمر بالمخططين الأقوياء في الوقوع في الشرك الذي نصبوه.
كان فاروفاكيس يأمل في هندسة إفلاس منظم لليونان داخل منطقة اليورو مع تخفيض ديون البلاد بشكل كبير وتقليص التقشف. وإذا فشل ذلك، فقد كان على استعداد لإخراج اليونان من منطقة اليورو والسير في طريق أزمة الديون السيادية.
فضل وزير المالية الألماني فولفانج شوبل، الشخصية المهيمنة في الشؤون المالية الأوروبية، علانية المسار الأخير. كانت وجهة نظره القاسية ولكن منطقية تمامًا، في أنه كان من الخطأ السماح لليونان بالدخول في منطقة اليورو، وأن السبيل الوحيد للمضي قدما هو مغادرة اليونان. من ناحية أخرى، لم تكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل راغبة في التفكير بخروج اليونان من منطقة اليورو والذي قد يؤدي إلى تفكك العملة الموحدة، ولكن في نفس الوقت غير راغبة أو غير قادرة على إجبار شوبل لتقديم صفقة أفضل لليونان.
النتيجة كما كتب فاروفاكيس "مأزق". وأنه رغم كلمات التعاطف من بعض وزراء المالية إلا أن خطة الإنقاذ ذهبت كما قررتها الترويكا، وقام وقتها رئيس وزراء اليونان "تسيبراس " بإجراء استفتاء، حيث رفض 60 ٪ من اليونانيين خطة الإنقاذ، بعدها قدم فاروفاكيس استقالته.
هذه رواية فاروفاكيس الأكاديمي اليوناني الذي أصبح وزيرا للمالية في اليونان، ورحلته والتي حاول فيها إنقاذ بلاده من شروط المؤسسات المالية المهيمنة على الاقتصاد العالمي. هل هناك من دروس للدول التي تمر في أزمات مالية في منطقتنا وتسعى إلى الذهاب إلى صندوق النقد الدولي لإنقاذها ربما.