المواطنة اللغوية من منظور اللسانيات الاجتماعية

 

د. بدرية بنت ناصر الوهيبية

كاتبة وباحثة في الشؤون الثقافية والاجتماعية

 

قراءة سوسيولسانية

إنّ اللسانيات الاجتماعية تنطلق من التأكيد على أنَّ الظواهر اللغوية بما فيها تحديات المواطنة اللغوية ترتبط بالمشكلات الاجتماعية لوجود صلة متينة بين اللسانيات، وعلم الاجتماع، ولذلك ضمّ بعض العلماء علم اللغة إلى العلوم الاجتماعية، لأن تأسيس اللغة يرجع إلى المجتمع، والإنسان، ووظيفتها الأساسة، التخاطب، والتواصل الاجتماعي، لذلك تركز اللّسانيات الاجتماعية على تأثيرات اللّغة في المجتمع، وتأثيرات المجتمع  في اللّغة، إضافة إلى الوظيفة التواصلية والاجتماعية للغة فهناك وظيفة ثقافية ووطنية تبنتها اللغة وهي دورها في ترسيخ المواطنة والهوية والإبداع والانتماء كونها تعبر عن الحضارة الإنسانية، والقيم، والثقافة الوطنية، وتؤدي دوراً في اندماج الفرد في مجتمعه من خلال استخدامه اللغة الوطنية الرسمية أو اللهجات العامية التي بدورها تعبر عن سمة من سمات الهوية الوطنية للمجتمع، ويؤكد العالم هدسون على دور اللغة الثقافي وارتباطها بالسلوك الاجتماعي في قوله بأن "اللغة ظاهرة ثقافية داخل السلوك البشري".

لذلك فإنَّ اللغة تصنع الهوية وتشكلها فلا يمكن البحث في واقع اللغة دون التطرق إلى صلة اللغة بالهوية لأنها تشكل مرتكزًا من مرتكزاتها، فالهوية تقوم على السمات التي تتميز بها كل أمة عن غيرها من الأمم،كدينها، ولغتها،وتراثها. وهذا ما أكده (فلوريان كولماس) في قوله "إنّ أفعال اللغة هي أفعال الهوية".

وحاول علماء اللسانيات الاجتماعية توضيح العلاقة بين اللغة والهوية والحياة الاجتماعية في الظواهر اللغوية التي تعد نتاج نشاط اجتماعي، ووسيلة يستخدمها المجتمع في نقل ثقافته من فرد لفرد، ومن جيل إلى جيل، كون اللغة تمثل الوعاء الفكري لثقافة المجتمع، وبالتالي فهي تعبر عن سمات الانتماء الاجتماعي والثقافي للفرد؛ لأنها تمثل في كل مجتمع جينًا وراثيًا تنقل سماته من الآباء إلى الأجيال الأخرى.

وفي ظل تأثيرات العولمة والمتغيرات العالمية والانفتاح الثقافي على الحضارات الأخرى فإنَّ هناك حاجة ماسة لتعزيز قيم المواطنة اللغوية والأمن اللغوي على المستوى الوطني، ويؤكد الباحثون في علم الاجتماع اللغوي، والمهتمون بقضايا السياسات اللغوية على أن اللغة العربية ستفقد قواها وسماتها، إذا لم يتم التخطيط لسياسة واضحة تنظمها، لذلك فإن أسس المواطنة اللغوية تفرض استخدام اللسان الوطني للدولة وهي اللغة العربية، التي لها دور كبير في تعزيز قيم الهوية الثقافية، وترسيخ الثقافة الوطنية، لذلك فإنَّ التخطيط السليم لمواجهة المخاطر التي تهدد سلامة اللغة العربية وحمايتها من الاندثار والضياع في ظل الفوضى اللغوية الحاصلة سواء أكان على مستوى التعليم، أم على مستوى استخدامها العملي في الحياة المهنية والرسمية في المؤسسات العامة والخاصة يعد واجباً وطنياً يفرضه علينا الواقع المعاصر. وإذا ما عدنا للتاريخ نجد أن كل أمة اعتمدت لغة رسمية في تواصلها وفي خطابها، فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتمد اللغة العربية في تحرير الرسائل إلى الدول العجمية من الروم والفرس والحبشة، كذلك نجد أن الخليفة المأمون أسس مدرسة لترجمة العلوم للغة العربية، وهذا يدل على أنه كانت هناك سياسة لغوية مخطط لها لاستخدام اللغة الرسمية آنذاك.

وإدراكاً من السلطنة في أهمية تعزيز المواطنة اللغوية وحماية اللغة العربية ألزمت بعض المؤسسات باستخدامها رسميًا وأدرجتها في نصوصها القانونية، فقد نص النّظام الأساسي للدولة في المادة (3) على أن اللغة الرسمية هي اللغة العربية، وبالتالي أغلب الإدارات العامة والقضاء تستخدم اللغة العربية في معاملاتها. ولكن هذه السياسة ما زالت لم تنفذ بالشكل المطلوب في المؤسسات الأخرى.

واتخذت بعض الدول العربية سياسة واضحة في حماية اللغة العربية من خلال إقرار التشريعات والسياسات اللازمة لتقنين استخدام اللغات، ومن أهم التجارب العربية في المحافظة على المواطنة اللغوية تجربة قطر حيث أقرّت مشروع قانون حماية اللغة العربية في دولة قطر 2015م، ويأتي هذا المشروع في سياق تمكين اللغة العربية في المؤسسات والإدارات القطرية والمحافظة عليها أسوة بتجارب الدول المتقدمة، وضمان عدم مزاحمة اللغات الأجنبية لها، حتى لا تفقد سيادتها في أوطانها، ويعمل المشروع على تأكيد القرارات الرسمية الصادرة عن مجلس الوزراء بشأن احترام اللغة العربية والمحافظة عليها، وبأنها ملزمة لجميع المؤسسات التربوية والتعليمية والأكاديمية والعلمية ووضعها موضع التنفيذ، للحد من الاستهتار والتمادي على لغة الوطن والأمة، أسوة بما هو معمول به في الدول المتقدمة. ويحقق مشروع قانون حماية اللغة العربية في قطر ما نصت عليه المادة الأولى للدستور القطري أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومن أبرز المشروعات التي وضعتها دولة قطر كذلك في حماية اللغة العربية إنشاء المنظمة العالمية للنّهوض باللغة العربية عام 2013م، لدعم عملية التعليم والتعلم باللغة العربية الفصيحة، وتفعيل دور العربية في مجال البحث العلمي المختلفة وتأثيرها الإيجابي في اقتصاد المعرفة يشكل خاص، والاقتصاد العربي بشكل عام.

لذلك فإن اعتماد تخطيط لغوي واضح وفق سياسة لغوية سيساعد في تعزيز المواطنة اللغوية وحماية اللغة العربية؛ لأن هذه السياسة ستسهم في تحديد أدوار اللغة الوطنية الرسمية وأدوار اللغات الأخرى، بالإضافة إلى تنظيم استخدامها في المؤسسات التعليمية، واستحداث مراكز للترجمة، وتنظيم استخدامها في المؤسسات والشركات العامة والخاصة وفق معايير محددة، ومن ثم ستساعد المواطنين على استخدام لغتهم الأم في مهامهم الوطنية دون صراع وتنافس مع اللغة الأجنبية الدخيلة على المجتمع والتي فرضت هيمنتها دون تقنين يحد من استخدامها، كذلك تنظيم اللغة الإعلانية من خلال اللافتات والإعلانات وواجهات المحال بإلزامها باعتماد اللغة الرسمية.

تعليق عبر الفيس بوك