علي الرئيسي
في القرن الثالث عشر، ابتكر كوبلاي خان، حفيد جنكيز خان، أول عملة ورقية وهي النقود التي تحصل على قيمتها من الدولة المصدرة لتلك العملة. ولم تكن هذه النقود الورقية الأولى؛ حيث كان التجار الصينيون يستخدمون شهادات الإيداع منذ القرن السابع، فقد كانت الأولى التي لم يتم دعمها بأي نوع من السلع، مثل الذهب، ولكن فقط سلطة الدولة.
سلطة الدولة في الواقع، تمثلت في أن أي شخص لا يقبل الرموز "العملة" يتعرض لخطر الموت، وكانت تلك ولادة المال كما يعرفه معظمنا اليوم.
قد يكون من أبرز التغيرات التقنية في العالم هذه الأيام، ما يحدث في الاقتصاد الرقمي، وأهمها تلك التي تمس كافة فئات المجتمع هو التغير في طبيعة تقنية النقد.
في الكتاب الجديد "مستقبل النقود.. كيف الثورة الرقمية ستغير النقود والمال" للمؤلف أسوار بارساد الاقتصادي الهندي والمحاضر في جامعة كورنيل الشهيرة في الولايات المتحدة، يضع بارساد هذا التحول الرقمي ضمن إطاره الأشمل؛ فهو يزعم أن من ضمن كل الاختراعات في المالية الرقمية (الفنتك) "FINTECH" في العقود الماضية، فإننا مقبلون على أهمها والتي ستؤثر بشكل عملي على إجمالي الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ حيث يشير بشكل مقنع إلى أن ضمن الفنتك، والبتكوين، وظاهرة اختفاء النقد، سيكون أبرز هذه الابتكارات على الإطلاق هو استصدار العملة الرقمية من البنك المركزي، وهي أحدث أنواع عملات البنك المركزي.
برساد يقوم باستعراض مثير في كتابه هذا لمعظم التحولات التي حصلت في العالم الرقمي، من النمو المضطرد للتحويلات عبر النقال في شرق أفريقيا والصين، إلى ظهور الإقراض من نظير إلى نظير "Peer to Peer" والتأمين المتناهي في الصغر. لقد أحدثت التكنولوجيا المالية بالفعل هزة في التمويل وشملت مئات الملايين من المستخدمين الجدد في النظام المالي، لاسيما في الدول الناشئة والبلدان النامية. الكتاب يصف البتكوين والآيثريوم وتقنيات دفتر الأستاذ الموزع، ولكنه يصف أيضًا خيبة الأمل حول استخدامها الفعلي في المدفوعات حتى الآن.
ويجادل برساد، بأن العملة الرقمية الصادرة من البنك المركزي ستمثل اختراقا أكبر؛ حيث يمكنها أن تمثل دعامة لأنظمة الدفع التي يديرها القطاع الخاص، وزيادة في تعزيز الشمول المالي، وتحسين انتقال السياسة النقدية، وحتى مكافحة الفساد وغسيل الأموال. طبعا هناك مخاطر بتجاوز البنوك وتهميشها، وفقدان الخصوصية والإشراف الأوريلي (نسبة لجورج أوريل) على المواطنين من قبل السلطات وهي مخاطر يمكن تخفيفها من خلال إيجاد الإشراف التشريعي المناسب.
في مستقبل النقود والمال، يتصور برساد حقبة من الفصل النقدي بين الدولة والقطاع الخاص. بينما تتكون النقود الحديثة- في الغالب من ودائع بنكية- تعتمد البنوك التجارية على البنوك المركزية لتوفير الاحتياطيات التي تدعمها وفي إدارة نظام المدفوعات بين البنوك. والتقنيات الجديدة ستفكك هذه الشراكة، في حين أن أموال الدولة ستوفر القيمة الإحتياطية أو المخزنة "store value" وغالبًا ما سيتم استخدام العملات الخاصة في تصنيعها.
يقدم الكتاب مراجعة عامة شاملة عن التطورات في المدفوعات، من مجموعة "e-krona" إلى مشروع "Ant Group" في فنزويلا، إلى الفصل الناقد لصناديق الحماية التنظيمية (بيئات الاختبار الخاضعة للرقابة للخدمات المبتكرة) من قبل الخدمات المالية في نيويورك.
برساد، في "مستقبل النقود" يؤكد أن البنوك المركزية لا بُد أن تدرس الخيارات المتاحة لها، و يؤكد على أن إصدار العملة الرقمية أو عدم إصدارها من قبل البنوك المركزية هي ليست عملية فنية بحتة، وإنما هي عملية اختيار للسياسات، ولاتخاذ الخطوات المناسبة لا بُد من تواصل مجتمعي واسع.
** باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية