فوبيا!

 

فاطمة اليمانية

 

 

فيمَ الإقامة بالزّوراء لا سكني..

بها ولا ناقتي فيها.. ولا جملي!.. الطغرائي

 

***

   

قرّرت انتزاع نفسها من الروتين- المقدّس- الذي تحيا فيه؛ مكرهة! مجبرة! بعد إلحاح شقيقها للذهاب معهم في نزهة داخل ربوع الوطن.

أخرجت حقيبتها، وحقيبة ابنها، ووضعت العديد من الملابس، والكثير من النصائح، والتهديد وشبه الوعيد، وهو يهزّ رأسه موافقا، ومؤكدا، وحالفا بأغلظ الأيمَان بأنّه سيكون ولدا هادئا، وديعا مسالما، و:

  • يسمع الكلام!

وفي قرارة نفسه أنّه لن يترك شيئا من شغبه لن يفعله أمام أولاد خاله، وسيظهر لهم مهاراته في القفز، والركض، وسرد أسرار البيت من أول حدث أدركه حتّى اللحظة التي يكون فيها معهم! توقفت عن نصحه، ونظرت إليه بهدوء نظرة خاصة بهما؛ فقال لها:

  • أقسم لكِ، وإذا لم ألتزم؛ لا تأخذيني مرّة ثانية!

لتتدخل والدتها، وتطلب منها الكفَّ عن توجيه النصائح القاتلة للأعصاب، المُتْلِفة لمشاعر البهجة!

 ففي نظام أمّها أنّ الإكثار من توجيه النصائح يأتي بطريقة معاكسة! وأن نصيحة واحدة تكفي، وكلّما تقدم العمر بالمرء؛ لا داعي لنصحه أبدا مهما فعل!

لذلك كان ابنها يحبّ جدتّه، خاصة عندما تعاتبها دفاعا عنه بعد أيّ سلوك خاطئ:

  • جينات!
  • جينات من؟

فتسدد لها نظرة خاصّة بينهما؛ كإشارة إلى أنّه نسخة منها!

وترمق ابنها الذي اتخذ وضعية "اليوجا" التي التقطها من أحد المسلسلات، وأخذ يقلدها بعد أيّ نصيحة موجهة له، وفي انتظار السيارة! بل سيارتين، أحدهما للنساء، والأخرى للأطفال؛ لتقرر الصعود مع الأطفال، مجيبة كل من يسألها، لماذا؟

  • لأنّها رحلة!

فلا بد من استغلال الفرصة للحديث مع أرواح ملائكية بريئة، والاستماع إلى حكايات جديدة يرويها الأطفال الصغار؛ لتكتشف أنّ ابنة شقيقها أنفال لديها مخزون لغوي كبير، خلافا لما كانت تعتقد؛ فهي لا تشاهدها إلّا هادئة صامتة!

وتحول الحوار بين ابنها وابنة شقيقها إلى منافسة حول الوحش الذي يشاهدانه، فالوحش المخيف جدّا – كما تظّن -عبارة عن بطّة سوداء بمنقار أحمر! بينما كان الوحش الذي يشاهده ابنها عبارة عن سلحفاة بشوارب طويلة تشبه الثعابين!

كتمت ضحكتها من خيال الأطفال القادر على تحويل كائن بريء كالبطّة إلى وحشٍ بمنقار أحمر مخيف! وكيف للمنقار الأحمر أن يكون مخيفا؟!

لتمتزج صورة الوحشين؛ لوحش جديد يشابه الوحش الذي كانت تشاهده – عندما كانت في مثل عمرهم- واقفا أمام باب الغرفة، محدّقا فيها!

فلكل طفل وحش خاصّ به، ولغة خاصّة، وطريقة في الشعور بالخوف، أو الدهشة، أو الفرح!

مرّت الساعة، والنصف مع الأطفال بطريقة ممتعة، تخلّلتها الكثير من التحذيرات للسائق:

  • انتبه.. ركّز.. لا تسرع!

واكتفى بهزّ رأسه، بطريقة جعلتها تشعر بأنّ السيارة تهتز معه! ثم سار بهدوء وسلام وبسرعة لا تتجاوز ال80 كم، فاتّصل شقيقها للسائق يسأله عن موقعهم؛ لأنّه لا يشاهد سيارتهم؛ فتناولت الهاتف، وقالت له:

  • ما هذه القيادة؟ لماذا تسرع؟
  • أقود بسرعة 140!
  • خفف سرعتك لو سمحت!
  • حسنا!

فاضطّر إلى تخفيف سرعته؛ ليتأكد من أنّ السائق خلفه؛ ويتبعه.

 وصَمَت الأطفال بعد إفراغ ما في جعبتهم من وحوش، وأحلام؛ لتسأل ابنة شقيقها الثانية نور بلغة هادئة مليئة بالبراءة، والسلام:

  • عمّتي.. أنا مَنْ أشبه؟!

تأملتها، كانت نسخة من شقيقتها المتوفاة! وحبست دمعة كادت تفرّ لولا أن تداركتها، فهذه اللغة الحازمة، والوجه الاسمنتي، والكلمات التي تطلقها كصفّارات الإنذار، يخفي الكثير من الذكريات المليئة بالشجن.

كرّرت سؤالها للمرة الثانية:

  • أنا أشبه من؟!
  • عمّتك نور.
  • لذلك أسماني والدي نور!

كانت نسخة مصغرّة منها، وجهها، شعرها البُني الكثيف، عيونها الناعسة، أنفها، لون بشرتها، حتّى طريقتها في نطق الكلمات، وخجلها؛ فسألتها ابنة شقيقها للمرّة الثالثة:

  • أين هي الآن؟
  • في الجنّة.
  • لديك صورة؟
  • نعم، لدي الكثير من الصور؛ وعندما تأتين لزيارتي سأخرج لكم ألبوم الصور.

وضعت رأسها على كتفها؛ وتذكرت شقيقتها الصغيرة نور؛ فمرّرت يدها على رأسها، وغفت الصغيرة، وتذكرت عندما كانت تمشط شعر نور التي تصغرها باثنيّ عشر عاما، وفارق العمر الكبير بينهما جعلتها تعتني بها، وكانت مهمة تمشيط شعر شقيقتها هوايتها المفضلة، حيث تحضر أدوات التمشيط، وتخبرها بأنّها ستقوم بعمل تسريحة جديدة لها، فتضفر شعرها؛ لتنصدم نور معترضة:

  • أين التسريحة؟!
  • هذه تسريحة!
  • ضفيرة للمرّة الألف؟!
  • ضفيرتان!

فالتسريحة – حسب قدراتها- هي إعادة تدوير للضفيرة! فالضفيرتان تسريحة، والضفائر العديدة تسريحة ثانية، وأن تعقدهما من الخلف! تسريحة من الطراز الأوروبي! وأن تضع أعلى كل ضفيرة وردة تسريحة من الطراز الأسباني!

كانت نور في البداية تظنّ بأنّ شقيقتها الكبيرة فعلا تجيد تسريح الشعر؛ لكنّها اكتشف الحقيقة بعد أن خلعت جدّتهم شالها؛ لتشاهد ضفائر الجدّة مصفوفة بنفس طريقة ضفائر نور!

فاتّجهت إلى والدها شاكية باكية؛ فأخذها إلى الدكان لشراء ما تحبّ من الحلويات؛ وهو يردد:

  • إلّا دموع نور!

ورغم جهاده المستمر في عدم إثارة غيرة بقية أبنائه؛ لكنّ القدر كان بارعا في ذلك، حين جاءت نور نسخة من والدته؛ ليدللها ويميزها بطريقة عفوية نابعة من حبّه الفطري لأمّه.

رحل والدها، ولحقت به نور بسبب خطء طبي غير مقصود.

فاحتفظت بصورها، وغصّتها، ودموعها، وأدوات التمشيط في صندوق خاص، وظلّت فترة طويلة لا تسمح لأشقّائها بالاقتراب منه!

أفاقت من ذكرياتها بعد توقف السيارة. نزل الجميع تجاه المزرعة؛ وفتح عامل المزرعة الباب؛ فأسرع ابنها إلى الحوضّ؛ لكنّها لحقت به؛ لتتأكد من عمق الحوض، وكميّة الماء؛ ونزل للسباحة بعد أن سمحت له، مبتعدا عنها إلى الطرف الآخر، هاربا من سماع كلماتها، وكأنّها متخصصة في إصدار لوائح التحذير والتنبيه، ولو كانت من مهندسي الطرق؛ لملأت الشارع بالكثير من اللّافتات المُحَذِرة؛ بدءً من العبارات المتداولة:

  •  قف.. خفف السرعة.. أقصى حد للسرعة 60كم!
  • إلى عبارات جديدة من اختراعها، على شاكلة: أمامك انحناء.. لا تتنفس! على يمينك حفرة سببها السيل.. لا تتحرك! على بعد كيلو متر يوجد خلية دبابير.. لا تخّيم في المكان! لا تمشِ! لا تسرع! لا تركض! وثمّة طريق معبّد على الجبل، لا تصعد!

ولم تكن تلك (الفوبيا) وليدة حادث تعرضت له؛ بل بسبب ما تسمع من أخبار عن حوادث في أماكن مشابهة؛ فتعيش القصّة كأنّها كانت أحد أفرادها؛ فحادث التصادم الذي أودى بحياة أسرة كاملة؛ تأثرت به كأنّها كانت معهم؛ وهي الناجية الوحيدة من الحادث!

وسقوط الحافلة من على قمّة الجبل، أيضا كانت فيه! لكنّها سَلِمت من الموت!

وأيّ قصّة جريمة وصلت إلى مسامعها؛ تعيش أحداثها؛ وكأنّها على صلة بالموتى، والمصابين، والمفجوعين، والموجوعين! ليزداد رعبها بعد وفاة والدها، وشقيقتها.

لذلك كانت تؤثر البقاء في المنزل؛ فالحياة في نظرها تعني منزلها الصغير.. عائلتها الصغيرة.. أن تغير شيئا ما.. تحرّك كرسيا.. تزرع شجرة جديدة.. تشتري كتابا جديدا تضيفه على مجموعة القصص والروايات التي تقتنيها، وتحافظ عليها! أو تحفة تظنّ أنّها ذات مغزى ومعنى، لتضعها في زاوية على طاولة!

أو تشرب فنجانا كبيرا من القهوة، وهي تشاهد حديقتها الصغيرة، والطيور المهاجرة، أو عابرة السبيل التي تثير انتباهها.. كالعصافير الضئيلة، وطيور القطا، والحمام البرّي الجميل، والصفارد، وبعض الطيور الملونة التي لم تتمكن إلى الآن من حفظ أسمائها؛ رغم أنّها سمعت الأسماء مرارا وتكرار، لكنّها لا تلصق في ذهنها أبدا!

كهذا العصفور الذي وقع في فخّ الصغار؛ وهربوا به خلف شجرة الليمون؛ لتتبعهم وهم يقولون لابنها الذي كان يمسكه بين يديه:

  • خبئه جيدا.. لو رأتنا عمّتي؛ ستطلق سراحه!
  • أو ستقول: انتبهوا! عصفور.. لا تمسكوه!

ضحكوا على تعليقه؛ لشعورهم بأنّ شيئا يضحك في مبالغتها في ردّة فعلها تجاه المواقف العابرة! فاقتربت منهم، ووقف ابنها مخاطبا العصفور بسخرية قبل أن يطلقه:

  • انتبه.. غراب مرّ من هنا.. حلّق في مكان آخر غير السماء!

 

(النهاية)

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك