حبة عنب

 

وليد بن سيف الزيدي

يُروى في الزمن الذي مضى أنَّ رجلًا ثريًا قد اشترى عنبًا ذات يوم وأرسله إلى أهل بيته بينما هو ذاهب إلى عمله. وفي فترة المساء عاد الرجل إلى زوجته وأبنائه، ثم أخذ قسطًا من الراحة. وبعد ذلك طلب من حبات العنب التي أرسلها ليأكل منها، فقالت له زوجته: لقد أكلناها ولم يتبقَ منها شيء. فاستاء الرجل قليلًا ولم يُظهر ذلك الاستياء من باب حفظ المودة والرحمة وإحسان الظن بأهل بيته، ولم ينطق حتى بكلمة واحدة حرصًا منه على ذلك. ثم خرج من البيت وهو في حديث مع نفسه لقد نسيَني أهلي من حبة العنب وأنا بينهم فماذا سيكون حالي بعد مماتي؟

مما كان لهذا الموقف البسيط من أثر كبير في نفس الرجل، حيث دفعه ذلك إلى اتخاذ أمر في قرارة نفسه وهو أن يبذل جزءًا من ماله وحاله في أوجه الخير العديدة لتكون صدقة جارية له بعد مماته. فبذلك يكون الرجل قد اشترى الآخرة بحبة عنب من الدنيا.

ومن ناحية أخرى وفي الزمن الحالي الذي نعيشه اليوم، قد يبذل الفرد منِّا العديد من الأوقات والجهود والأموال ولفترات طويلة من عمر الإنسان في سبيل الحفاظ على كل ما هو جميل حصل في الزمن الماضي مع أفراد آخرين كان يُحسن الظن فيهم، رغم صعوبات الحياة وقسوتها في بعض المواقف التي تظهر من القريب أحيانًا ومن البعيد أحيانًا أخرى، ولكن دائمًا يكون الألم أكبر عندما يأتي من القريب. وفي المقابل يتم التعامل مع تلك المواقف الجميلة بعكس المتوقع من أولئك الأفراد. لتصبح قيمتك يا أخي العزيز الذي بذلت من أجلهم ونسيت الآخرة بقيمة حبة العنب عند أولئك الذين كنت تبذل لهم ومن أول زلة منك وأول فرصة أصبحت متاحة لديهم.

فهنا تم بيعك وبيع تلك المواقف الجميلة التي بذلتها واستمرت لفترات طويلة وفي أماكن عديدة وتحت ظل ظروف مختلفة وقاسية في بعض الأحيان وعهود كان يغلب عليها حسن الظن حينما تم قطعها. نعم تم بيعها جميعها بحبة عنب من الدنيا.

وبهذا يا أخي العزيز وفي قادم الوقت وبعد أن قرأت هذا المقال، يمكنك أن تجعل لنفسك من حبة العنب أهدافاً عالية في التجارة مع الله، من خلال البذل في أعمال الخير العديدة المادية منها والمعنوية، والتي تضمن لك السعادة في الحياة الدنيا والفوز بالنعيم الدائم عنده سبحانه وتعالى. كما يمكنك في الوقت ذاته أن تجعل من نفس تلك الحبة من العنب أهدافاً رخيصة من خلال بيعك للعديد من المواقف المخلصة واللحظات السعيدة والعهود التي قطعت في فترات سابقة، ولأسباب كان الوضوح والصراحة يغلب عليها منذ بداية المسير. ثم تأتي اليوم وبعد أن أصبحت الجذور عميقة بيننا لتضيف حججاً وأسباباً أخرى غير مقبولة في قرارة نفسك وكذلك لدى الأغلبية إذ لم يكن الكُل ممن يسمعها ويعلمها. ورغم ذلك يتم القبول بها رغبة وإصرارًا في المحافظة على كل ما هو جميل قد مضى وعلى أمل بالله بأن القادم جميل، ومحتسبين الأجر عنده سبحانه وتعالى، ومتغافلين عمَّا دون ذلك.

وبعد هذا كله هل ستكون تلك المواقف الجميلة حاضرة في قادم الوقت ومع نفس الأفراد ورغم وجود الجراح العميقة؟

نعم، ستكون حاضرة بإذنه سبحانه وتعالى؛ وذلك إيمانًا بأنَّ ما عند الله خير وأبقى، ولأنَّ الأصل في المؤمن إحسان الظن بأخيه ثم السعي في محاولة البحث عن الأسباب التي جعلته يصدر منه ما صدر من أقوال وأفعال وبتأثير وضغط وتحريض من الآخرين وبحجج يغلب عليها الجانب المادي. ولأنَّ الأمل بالله يجب أن يُبنى على أساس أنَّ القادم أفضل، وأنَّ الإساءة تُقابلُ بالإحسان لتصبح يومًا ما خيرًا كثيرًا بإذنه سبحانه.

مستلهمين تلك الرغبة والإرادة في استمرار الخير والعطاء من الوقفة الأخيرة للسلطان الراحل قابوس بن سعيد- رحمه الله- رغم الألم وما تحمله تلك الوقفة العسكرية من معانٍ عديدة، ومن موقف حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في تحمل المسؤولية الجسيمة وفي ظل الظروف التي أصبحت لا تخفى عن أحد. كل ذلك من أجل الحفاظ على ما مضى من الجميل والبناء عليه والاستمرار فيه بإذنه سبحانه وتعالى.

والله الموفق.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة