التقليد السلبي وآثاره الاجتماعية

 

 

عبد الله العليان

مع بدايات الانفتاح العربي على العولمة وتوابعها التكنولوجية، وما تمَّ من إضافات من تقنيات متعددة في عالم الإعلام والمعلوماتية في العقدين الماضيين، ارتبط الكثير من الشباب، بجديد هذه المنتجات الحديثة، سواء كانت في مجال الأفكار، أو الأدوات الأخرى، أو من غيرها مما طرأ بسبب التطورات العملية المستجدة، والذي أخترق كل العوالم في عصرنا الراهن.

هذا بلا شك له آثاره على كل الأجيال؛ سواء الإيجابي منه أو السلبي، من حيث تقبل هذا الجديد الآتي من خارج البيئة الجغرافية، الذي تعزز بوسائل قادرة على الاختراق في هذا الفضاء، شئنا أم أبينا، وهذا التأثير تم إيجاده وإعداده، من قدرة علمية صناعية مُبهرة للعين والفكر معاً، ولها من الرغائب والمحفّزات الكثير من القبول في أغلبه، لدى كل الأجيال، لاسيما الجيل الجديد، وفي أغلب دول العالم. والإشكال الكبير أنَّ القدرة على الفرز والانتقاء محدودة لدى الكثير من الناس، لكوننا غير قادرين على الإبداع أو إيجاد المبتكرات من جانبنا، ما يكون لنا من قدرة في أسس الاختيار، وإيجاد النماذج التي تقابل أو نواجه ما يأتي من هذه القوة التكنولوجية الهائلة التي تتدفق بقوة في عالمنا العربي وفي غيرها من العوالم.

ولذلك فإن الكثير من المفكرين العرب البارزين في هذه الأمة كانت لهم آراء تتعلق بهذا الجديد الوافد، وكتبوا في تقييم هذا المجال، ولكنهم حذروا من النظرة غير المدركة لتقليد كل ما هو جديد دون الرؤية الواعية لما يأتي دون تقييم، واعتباره مكسباً إيجابياً دون مخاطر وسلبيات؟ صحيح أن هذا العالم أصبح مفتوحاً وقادراً على الاختراق، ولن ينفع أن نسد جديده القادم. لكن من المهم أن يوجد ما يجعل هذا النموذج المقابل من حيث بث الوعي الذي يبرز السلبيات ويعطي من الفهم المنطقي لما يطرح، والذي يجد القبول من الجمهور، وهذا الكم الهائل من المعلوماتية والسلعية ليست كلها سالبة، فهناك لا شك الكثير من الجوانب المهمة والإيجابية. لكن السؤال المحوري: كيف نضع من جانبنا ما يعزز القيم الذاتية؟ ويترك الوعي المقبول المقابل للرؤية التي تأتي إليك جاهزة ومعدة ومخططة لها ما يأسرك، وتجعلك أكثر قابلية لما يأتيك من هذه السماوات المفتوحة، الذي يجعل التأثير غير مقلق للجيل اليافع في قدرته على الفرز الإيجابي، الذي يجعل التمييز ظاهراً وقابلاً للانتقاء في هذا الذي يتلقاه الفرد.

هذا الاختراق عبر الوسائط المتعددة والمحمل بأيديولوجية مخططة التي نحدث عن أثرها على الهوية الثقافية، واقع نعيشه ونرى تزايده في قدرته الكبيرة على التطوير، وذلك فإنَّ هذا العالم المتعولم، من خلال مفهومها  الذي وضعـه القائمون على تطبيقاتها، يقول يطرحون إستراتيجية تعميم نموذجها عالمياً من خلال الوسائط الإعلامية التكنولوجية الحديثة المتطورة، ولن تتوقف القدرة العلمية عند جانب واحد في قدرتها على النفاذ والاختراق.

و"الحضارة الحديثة"، كما يقول د.عبد الوهاب المسيري، مرتبطة بآليات  السوق، وبالعرض والطلب، وهي حضارة بسيطة لا تعرف تركيبة الإنسان وتنكر مقدرته على التجاوز، فهو إنسان ذو بعد واحد "يعيش في مجتمعات أحادية الخط" وعقله عقل أداتي "يغرق في التفاصيل والإجراءات ولا يمكنه إدراك الأنماط التاريخية أو تطوير وعيه التاريخي"؛ حيث إن "السوق والمصنع بآلياتهما البسيطة يتطلبان إنسانًا طبيعيًا ماديًا بسيطًا، ليست له علاقة بالإنسان الإنسان، والإنسان المركب، والمجتمعات الاستهلاكية التي لا تحكم إلا آليات العرض والطلب والاستهلاك والإنتاج، تزعم أنها  قادرة على إشباع  جميع  رغبات الإنسان المادية والروحية من خلال مؤسساتها الإنتاجية والتسويقية والترويجية".

وهذا الاختراق الذي تشتكي منه بعض الدول، لا يقف نقده والحذر منه عندنا في العالم العربي فقط؛ بل حتى بعض السياسيين والمفكرين الفرنسيين، تحدثوا عن مخاطر هذا الاختراق تجاه ثقافتهم الفرنسية، مع ما بينهم من تقارب فكري وثقافي وسياسي وديني! وهذه ما عبر عنه الشاعر الفرنسي أندريه فيلتير عندما قال: "نعم هناك إمبريالية ثقافية أمريكية طبعاً هذه الليبرالية اقتصادية وسياسية؛ ولكن ما يهمنا  هو الميدان الثقافي لا سيما أنه الهدف الذي يدور حوله الصراع في العقد الأخير من هذا القرن، فإما أن يُدجَّن العالم ويخضع للثقافة الأمريكية، وإما أن تظهر فيه وتتشكل ثقافات وحضارات مناهضة للثقافة الأمريكية المهيمنة".

وقد قلتُ في كتابات سابقة: إن عالم المعلوماتية المتدفقة بقوة في عصرنا الراهن، يمثل بلاشك تحديًا جديدًا للنظام الإعلامي القائم في الوطن العربي، بما أحدثه من ثورة تكنولوجية كبيرة في عالم الاتصال من تطورات كبيرة باضطراد وسيستمر، في وقت باتت النظم المعلوماتية إحدى أهم ركائزها الجديدة، التي ما برحت تتوسع وتسيطر على كل الجوانب الحياتية لإنسان هذا العصر؛ سواء  في القضايا السياسية، أو الاقتصادية، أو الثقافية، أو غيرها من الجوانب التي لا نستطيع حصرها، ولذلك فإن من المهم أن تتبلور مخططات مدروسة جديدة للإعلام العربي لمواكبة الظروف والمتغيرات التي ستصاحب هذا الجديد الوافد، وقد أصبح واقعاً لا مفر منه، لتقليل الخسائر في ميادين الكلمة واستحواذها على عقل وتفكير للقارئ والمشاهد في هذه المرحلة، وهذه تحتاج إلى تخطيط طويل المدى، لتحسين ما نراه مهمًا في مجال عالم هذا المجال المفتوح.