التباشير والزاوية واللبان

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

التباشير..

إذا كان بوجود مئذنة على أى مبني نعرف أنه مسجد، وبوجود الصليب والأجراس نعرف أنها كنيسة، ففي نفس السياق فإنَّه بوجود أعمدة طويلة بأي بناء نعرف أنَّه مستلهم من روما، وناطحات السحب الحديثة تذكرنا بعمارات اليمن القديمة، وقد استلهم العرب قديماً ما يُسمى "العكوف" في مبانيهم ومساجدهم من النخلة وبالذات شكل انحناءات أغصانها، فأصبح وجودها دليلا على استلهامه من الحضارة العربية الإسلامية. وعلى هذا المنوال تعرف بأنك في محافظة ظفار بسلطنة عُمان من وجود "التباشير" على سطح مبانيها التاريخية القديمة ومساجدها من ضلكوت غربًا إلى سدح شرقا، والتباشير، كما هو معروف تكون على شكل مثلثات تحيط بكل جوانب سطح البناء ويكاد لا يوجد مسجد أو جامع قديم، إلا زينت أسطحه بهذه التباشير، إضافة بالطبع إلى نوافذ هذه المباني (الدرايش) الخشبية ذات الفتحتين من الأعلى والمشربية الخشبية تحتها التي تسمح بدخول وانسيابية التهوية وأيضا من أبوابها الخارجية الكبيرة (السدة) المزخرفة والمدخل الصغير بها (البوني أو فرخ السدة) المميزة وصبغة هذه المباني الموحدة من الخارج بمادة (النورة الناصعة البياض) التي تحافظ على اعتدال الحرارة بالداخل بين البرودة والحرارة حسب المواسم، وكذا الخطوط أو الأحزمة باللون الداكن بين كل دور وآخر من هذه المباني.

الزاوية..

هي ذلك البناء الصغير بحجم غرفة مرتفع سقفها ملحقة بكل جوامع ومعظم مساجد ظفار القديمة وتحمل نفس تصميم وشكل هذه المساجد وتزين أسقفها بنفس التباشير لتتجانس في الشكل مع المسجد، وإن كان الغرض منها في الأساس السقيا وليس العبادة ولها فتحتان في أعلى الحوض متقابلتان من الجنوب والشمال تسمحان بمرور تيار الهواء سواء كان الهواء جنوبيا أي من جهة بحر العرب أو شمالياً من جهة جبال ظفار والنجد حسب المواسم وتعملان على تبريد مياه الشرب بحوض هذه الزاوية على مدار اليوم.

التباشير والزاوية والنورة والنوافذ والسدة، وإن كانت أهم معالم البناء الظفاري القديم؛ سواء مساكن أو مساجد، إلا أنها ليست كلها، ولا زلنا نشاهد ذلك في البيوت والمباني التاريخية القديمة والأضرحة، والذي يصل عمر بعضها إلى مئات السنين، ولا شك أنها قد رُممت في السابق عدة مرات خلال هذه الحقب الزمنية الطويلة، إلا أنَّه تمَّت المحافظة من قبل الأجداد في كل مرة على هذا النمط في الترميم والتجديد وسلموها لنا كما هي عليه اليوم أمانة في أعناقنا بعد كل هذه القرون بنمطها التاريخي وتصميماتها الجذابة التي تحمل معنى الذوق الرفيع وروح البساطة وروحانيات الوجدان.

هذه المباني والمساجد التراثية العريقة التي لازالت شامخة بأشكالها الجميلة ومحافظة على بريق لونها الأبيض الناصع والتي لم يستطيع الخريف بأمطاره ورطوبته ورذاذه الذي يتوالى عليها لمدة ثلاثة أشهر تقريبا كل عام منذ مئات السنين، ما زالت شامخة فى بهاء وإباء، وكأنها تبتسم لنا في تعجب، ولسان حالها لا يخلو من عتاب مما يحصل من أهلها حولها من نشاز في إعمارهم الحديث، وتنكرهم لتاريخها المعماري العريق وتقاعسهم حتى من أن يستلهموا منه أي شيء يذكر في كل أشكال بيوتهم وبناياتهم ومساجدهم ومدارسهم الحالية وغيرها الذي أصبح عبارة عن كوكتيل تصاميم جاء بها المهندسون الوافدون بعد عصر النهضة الحديثة من كل حدب وصوب شرقًا وغربًا وكل فج عميق، وأصبحت بلا هوية، إلا ما تبقى من هذه المباني التاريخية.

أصبح العزاء الوحيد اليوم هو وجود هذه المباني القديمة ومقاومتها التي ما زالت قائمة، لكن لا نعلم إلى متى ستستمر نتيجة كل هذا الإهمال لها؟!

نجد لِزامًا علينا اليوم ومن باب الوفاء على الأقل وعلى مهندسينا ومصممي معمارنا بالذات وبلدياتنا، أن يستلهموا ما يربطنا بإرثنا فى كل بناء جديد، خصوصاً في وقتتا الحالي وبعد مضي أكثر من خمسين عاماً على نهضتنا الحديثة وبعد أن حل المهندس والمصمم ابن البلد بدل الوافد.

إنَّ لنا عبرة في مسجد عقيل بصلالة الشرقية، الذي أسسه المغفور له السيد الشريف عبد الله بن محمد باعمر سنة 1774 هجرية، وأُطلق عليه بعد ذلك "مسجد عقيل" نسبة الى العلامة الفقيه عقيل بن عمران المتوفى سنة 1062 هجرية، وأُعيد بناؤه وتوسعته في عام 2008 على نفقة أحفاد المؤسس وبمساهمة من أصحاب الأيادي البيضاء مشكورين، مراعين النمط التقليدي له ولمساجد ظفار القديمة عمومًا وأصبح اليوم معلمًا حضاريًا للعبادة والزيارة في صلالة الشرقية رغم موقعه المنزوي وسط الأحياء الداخلية.

وكذا مسجد الحداد بالدهاريز الذي أسسه السيد الحبيب عبد الله بن علي بن علوي الحداد سنة 1159 هجرية وأعيد ترميمه بنفس النمط التقليدي أيضًا على نفقة أحفاده مشكورين سنة 2006. ولا يفوتنا أن نشير أيضاً إلى مسجد عبد العزيز العفيف بالدهاريز الذي يُعد من المساجد القديمة جدًا في ظفار والذي أعيد ترميمه بنفس نمطه السابق بدون تعديل في البناء والأعمدة (السواري) والمساحة، اللهم إلا إزالة السقف وإعادته من جديد بنفس النمط القديم وتمت كسوة حيطانه الخارجية بأحجار مرباط على نفقة رجل الخير والصلاح الشيخ السيد سالم بن أحمد بن علوي الحداد، أطال الله عمره.

ألا ينادينا كل هذا الإرث المعماري المميز الجميل والذي ما زال ماثلا أمام أعيننا لإعادة بناء ولو بعض جوامعنا التاريخية القديمة كجامع صلالة الوسطى وجامع الشيخ على بالحافة وجامع بامزروع فى صلالة الغربية؟ وهذا على سبيل المثال لا الحصرـ وهي جوامع تقع على شارع عام ووسط مناطق رئيسية، فنكفِّر بذلك عن غلطتنا التاريخية بهدمها جميعًا بالتزامن في ثمانينات القرن المنصرم، تحت شعار التحديث والذي أصبح معه حالها بعد ذلك لا يمت بصلة لأشكالها التاريخية القديمة، ونسفنا بذلك تاريخ نمطها المعماري الذي حافظ عليه الأجداد لمئات السنين وأزلناه نحن في بضع سنين!

"إنَّ الله جميل بحب الجمال"، فأين الجمال فيما أعدنا بناءه بعد الهدم؟! ولماذا لا يتم عموماً استلهام هذا النمط الفني الجميل أيضا في منازلنا ومدارسنا وغيرها؟!

اللبان..

اللبان، لؤلؤة ظفار وعمان التاريخية المباركة، والتي زامنها تاريخيًا لآلاف السنين وإلى اليوم، حتى إن ظفار عرفت قديما بالبلاد السعيدة وأرض العمالقة وأسطورة عصرها ثراءـ مما جعلها مطمع كثير من الشعوب، فقد غزتها الملكة الفرعونية حتشبسوت من أجل الاستيلاء على مصادر اللبان بترول تلك العصور السالفة.
 

لم يكن اللبان مصدر دخل وثراء لظفار فقط؛ بل كانت له أدوار كبيرة في حياة الظفاريين، منها أنه كان يحرق على تباشير المباني يبخر أجواء المدينة في المناسبات كاستقبال السلطان أو توديعه واستقبال ضيوفه الكبار وغيرها من المناسبات، وكان يوضع النوع البلوري الجيد منه في أحواض زاوية المسجد ليعطي الماء رائحة زكية وصحية، كما هي العادة بوضعه في أقداح البيوت الفخارية لنفس الغرض، وكان كذلك يستعمل في تحنيط جلود صغار الإبل من الذكور الصغار للحفاظ عليها لفترة طويلة من الزمن؛ لتشمه وتتحسسه الأم وتدر الحليب عليه. أما المرأة الظفارية فقد تفننت منذ القدم في إدخال اللبان فى مشتقات أنواع شتى من البخور الظفاري الشهير الذي تجاوزت شهرته الآفاق.

أين نحن من كل هذا اليوم ولماذا نبحث عن كل شيء من خارج الصندوق وصندوقنا يحوي بداخله كل جميل وفي كل مناحي الحياة. فهل من متعظ؟!