د. مجدي العفيفي
كثيرًا ما كنتُ أتساءل- وما أزال- لماذا تتفوق المبدعة العمانية خاصة من جيل الرائدات في مجال الفنون الجميلة، وبالأخص التشكيلية؟
ستحتفظ الذاكرة الثقافية العمانية لهذا الجيل المثمر بأنه عبّد الطريق امام الاجيال المتلاحقة على الساحة، والتي تتجمل بالتواصل والتكامل والتفاعل
وما كان للحركة الفنية التشكيلية بفنانيها وفناناتها، لتصل إلى ما وصلت اليها من تطور وتقدم في الشكل والمضمون الا بعد سلسلة من مراحل التجريب.. كما ذكرت في الكقال الماضل حيث تشتبك الرؤي وتتشابك وهي تتابع انسياب ابداعات الآظافر الطويلة موجة في إثر موجة... مشحونة بالحرارة ومسكونة بالغزارة.. أنامل رقيقة.. وهج جمالي..لوحات.. ألوان.. ظلال.. أرواح هائمة في مدارات الفنون التشكلية.. أصوات لوحات.. وفرشاة تكتب.. خطوط ناعمة.. خيوط متوحشة إلا قليلا.
تحدثت في الحلقة السابقة من توثيق ريادة هذا الفن الجميل عن الفنانة والشاعرة رابحة محمود.. وها هي الفنانة «سهير فودة» التي وضعت على رفوف المكتبة التشكيلية والأدبية، العديد من الأعمال الشعرية والنثرية.
تعود علاقتي الصحفية والجمالية بالفنانة والكاتبة سهير فودة الى بداية عقد الثمانينيات، وأتذكر أنها كانت من أوائل من التقيت بهم وبهن في بداية السطر الأول من كتاب وجودي في السلطنة الذي امتذت صفحاته الى الثلاثين عاما بشكل متواصل.. وبصورة متوهجة، ولا يزال التوهج هو (مانشيت) صحيفتي العُمانية، وهو شرف لو تعلمون عظيم!
تابعت سهير فودة، لوحة وكلمة، خطا ولونا، حرفا وظلا، وتواصلت متابعاتي لها في مشاركاتها المتباينة، داخليا وخارجيا، الكلام في السياسة، قلبي من ماء وطين، وطني وهاني وحريتي.. وغيرها، وتبقي ريشتها هي الأقوى.. وفرشاتها هي الأجمل...
تدلل الفنانة سهير فودة.. على عمق نظرتها للفن وعملية التذوق؛ إذ تتبنى في خطها مسارا تشكله بقولها «الفن هو عبارة عن تجميع لوني داخل موضوع واحد يجذب الانتباه نحو فكرة معينة، فقد ترسم (بورتريه) أو وجها أماميا، أو جانب الوجه، ولكن وضعك للون هو تأكيد للفكرة التي كونتها قبل البدء في العمل، والخلفية أيضا هي فكرة مساعدة للفكرة الأساسية، وقد تكون الفكرة المساعدة مساحة لونية أو تكون خطا واحدا أو خطوطا عديدة وقد تكون ظلالا، وقد تكون موضوعا آخر، مثل وضع شمس أو قمر أو شراع أو ستارة دون أن يكون الموضوع الأساسي في حاجة إليه، وتتغير الفكرة المساعدة، ويتغير الموضوع ويكون اختيار الموضوع أهم أهداف العمل، لأن الفكرة الأساسية إذا تبلورت داخل فكر الفنان فإنه قادر على إخراجها بصورة جمالية كاملة.
وتؤمن سهير فودة بأن ثقافة الفنان أولا واعتماده على الرؤية العلمية الصحيحة وانتمائه الفني للفن دون النظر إلى أية مكاسب مادية، قد تدفعه إلى الخروج من دائرة الرؤية الصحيحة للفن، هي مجموعة مزايا تدخله إلى مسار الإبداع فتخلق له خطا فنيا مدروسا، فيتبعه عبر السنين محبو هذا الصدق في التعبير وهذا الثراء الثقافي وهذا التواجد المتميز، وتلك الشفافية الرائعة التي تضفي على الفنان صفة النقاء.
ونصغي لها وهي تهمس بحروف كتاباتها وظلال لوحاتها، وهي تستدعي جذورها، ولا نمو بدون جذور: «أنا فنانة منذ خلقت.. منذ الأزل وأنا أرسم.. لا أتذكر نفسي وأنا لا أرسم.. تجربتي الفنية بدأت منذ وجودي وعلاقتي بالفن هي علاقة وجود وحياة.. فتعلمت الفن منذ الصغر.. فانتسابي للإدارة العامة للفنون الجميلة كان انتسابا حرا لصغر سني – ثم واصلت صقل موهبتي بالدراسة في معهد ليوناردو دافنشى وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة.. وكانت دائما شخصيتي التي أعرف بها أني فنانة.. والفن بحد ذاته إضافة.. فالفن هو الحساسية والشاعرية والتذوق هو التعامل الراقي والاختيارات المنتقدة.. وهذا يحقق لي السعادة.
وترى أن تركيبة الفنان الفطري تختلف عن متعلم الفن.. فيمكن التقاط الفنان من خلال أسلوبه وتعامله.. وما يحتاجه الفنان هو تفهم دوره في المجتمع بمعنى لابد أن يكون سلوكه سلوك فنان. والا يمل الفنان من الدراسة والتلقي ويكون على اطلاع بالحركة الفنية في العالم ولا يبقى فقط على القديم أو يلجأ للتقليد.
وتتواصل سهير فودة مع الأجيال التالية ففي منظورها أن الفنانة التشكيلية العمانية "مقبلة على التعلم بشغف، وتوجد في السلطنة قاعدة من الفتيات الطموحات.. لكن الطموح بلا دراسة أكاديمية لا يكفي.. إنما الذي يجمع المواهب المبعثرة في منهج تأسيسي هو كلية للفنون الجميلة.. وهذا ما سيخلق قاعدة من الفنانين نواجه بها التقدم الفني والتكنولوجي في العالم.. ويجب على الفنان الا يقف عند مستوى ثابت.. فيجب أن يكون تواجد الفنان في كل مكان.. ويجب أن يكون الفنان مؤسسا ليعمل بشكل واع ومنظم".
وترى أن الفن موهبة لابد لها من علم يهذبها وثقافة تصقلها، وأن الفنان يصل إلى قمة الإبداع حين يرتقي من الحادثة الجزئية إلى مستوى إنساني كلي، فلا يكفي أن أمارس كل الفنون لأصير فنانا، وإنما يجب أن يتميز سلوكي بالشاعرية والنقاء علاوة على الاختيار الموضوعي للخط الفني والسير بثقة نحو الأفضل.
ويجب على الفنان ان ينمي حسه الادراكي لنقطة التركيز؛ حيث تتجه العين إلى نقطة الاهتمام في العمل الفني، كذلك الاستشفاف الانسجامي بين الموضوع الذي اختير، والألوان المستخدمة وأيضا التوازن والجمع بين عناصر الموضوع في توازن منطقي مهما تباينت المدارس فهناك روابط وضوابط تحكم العملية الفنية من ايقاع حركي وتوازن خطي ولوني ويتضمن المساحة المتاحة للعمل والدراسة والتميز كل هذه الأشياء تشكل ضرورات للعمل الفني وللفنان كي يخرج عملا متميزا غير مقلد وغير نمطي الاتجاه، فالفن يسمو بالفنان، ويذكي حسه وإدراكه بالجمال، وينشط مفاهيمه ويثريها ويبسط متاعب الحياة ويهيء جوا لطيفا يخلو فيه الفنان إلى ذاته، ويجعله مثاليا في حكمه على الأشياء، وينشط الجملة العصبية، ويرتقي بالسلوك إلى حيز التميز حيث يتخلص الفنان من خلال عمله الفني من انفعالاته عن طريق بعض الموضوعات التي تخرجه من المعاناة، فالفن "جمال وإبداع وتسامٍ".
ولا يكفي الفنان أن يحسن فكرته ويضعها في العمل الفني، بل لابد له أن يحسن اختيار اللون الذي يصور هذه الفكرة والحجم المناسب والخامة المناسبة.
وهنا يأتي إبداع الفنان في اختيار الأسلوب الصحيح لمساراته الفنية. فإن اللون يضفي على الابداع، إبداع آخر، ولسي من اللازم استعمال كافة الألوان لموضوع واحد. ولن الاختيار السليم هو الهدف الي سيحدد الخط اللوني الخاص بالموضوع.
وفي منظورها أن الفنان نهر من العطاء، والمثقف هو شلال من العطاء. فإذا ما جمعت شخصية واحدة هاتين الصفتين، كان عطاؤها نبعا لا ينضب، فالثقافة للفنان هي الشخصية التي تحترم في جميع المحافل، حتى لو كنت غريبا، فثقافتك وابداعك يجعلانك في قمة من الحفاوة، ومن ثم فالفنان بدون ثقافة مثل الآلة تعمل بمنتهى الدقة، ولكن دون تفكير، أو تجديد أو إبداع، تكون مبرمجة على شيء لا تستطيع الخروج من حيزه، فعيون الفنان هي نوافذ تطل على ما وراء الواقع ويداه تعملان بإيحاء الفكر الذي يترجم الإشارات الآتية من تلك النوافذ
وهي تفخر بالينابيع التي تتفجر شلالات من الجمال: نحن في عمان لدينا في كل مكان أروع المناظر الطبيعية التي تخلق في النفس ملكات الإبداع الفني بكل مجالاته وأنواعه فإذا ما تجولنا في داخل البيئة سنخرج بروائع من الإبداعات ذات الجمال الفطري، فإذا ما تأملنا شواهق الجبال مع شوامخ القلاع بعين الفنان المثقف الواعي شاهدنا تاريخا عظيما وعندما تهب نسائم الخريف الجميل ونرتمي في أحضان الطبيعة الخضراء في صلالة، فإن إحساس الفنان يجري بين المروج ويسبح مع أمواج بحر صاف معطاء، ويستريح على شواطئ من حرير منسدل على أرض طيبة كريمة، وهنا الروعة في العطاء الفني، فالفنان يدرك الجمال أكثر من غيره فعيون الماء وبواسق النارجيل ورشاقة أشجار الفافا تحلق بالفنان إلى قمة الإبداع في الواقع الجميل والخيال الرائع.