محمد بن حمد البادي
في بداية التخطيط الحضري الحديث؛ وتحديداً في النصف الثاني من القرن الماضي؛ كان سقف الطموحات عالياً، حيث كانت الأحلام الوردية تتمثل في امتلاك كل عائلة منزل متكامل بكل مُرفقاته وبمساحة مُناسبة، ومن حوله حديقة غناء؛ بأشجار وارفة الظلال ومسطحات خضراء، مع مواقف خاصة للسيارات باعتبار ذلك حقاً مشروعاً لكل شخص.
واعتمد الحالمون بذلك على معياري الوفرة في مساحات الأراضي والوفرة المالية التي كانت متاحة في أغلب بلدان العالم المتقدم في ذلك الوقت، والمعززة بالثورة الصناعية الثالثة واكتشاف البترول، فبدأت عملية التخطيط بإسرافٍ غير مُبرر في استخدام الأراضي من خلال التوجه للتوسع الأفقي، ومن ثمَّ إنشاء مُخططات ذات استخدام واحد، حيث أحدها مخصص للاستخدام السكني فقط، والآخر تجاري وصناعي، وآخر صحي وتعليمي، وآخر خدمي وترفيهي، وكانت المباني بألوان شبه موحدة، وبتصاميم خالية من الإبداع والابتكار.
وبعد الإقبال الكبير على استخدام السيارات بدأ الاهتمام بتوسعة الشوارع الرئيسية والفرعية وتخصيص مواقف خاصة لها؛ والتي أخذت حيزاً كبيراً من المساحة؛ لاستيعاب كم هائل من السيارات وللقضاء على الزحام.
لكن بعد عدة سنوات من العمل بهذا النمط بدأت تظهر سلبيات لم تكن في الحسبان؛ فقد تم القضاء شبه التام على مساحات الأراضي الصالحة للسكن والتي في جزء كبير منها حق للأجيال القادمة، ثم إنَّ الخدمات التعليمية والصحية والتجارية والصناعية والخدمية والترفيهية والتي أنشئت أصلاً لخدمة الإنسان؛ ستكون خارج المخططات السكنية، ومن أجل الوصول لهذه المرافق والخدمات كانت الضرورة ملحّة لاستخدام السيارة في كل مقصد من المقاصد اليومية؛ وبالتالي زيادة زحمة المرور والذي بدوره يؤدي إلى إهدار المزيد من الوقت لكل مقصد عن المعدل الطبيعي، وارتفاع معدل استهلاك الوقود ومعدل تلوث الهواء، وزيادة الضوضاء، وزيادة حوادث السير، مما كان له أثر سلبي على الجانب الصحي والاقتصادي والبيئي؛ أضف إلى ذلك ارتفاع معدلات السمنة الزائدة بسبب قلة مُمارسة رياضة المشي بسبب الاعتماد الكلي على السيارة.
ومن أبرز السلبيات كذلك زيادة كلفة استصلاح مخططات جديدة أو امتدادات لمخططات قائمة، وما يتبع ذلك من ضرورة تزويد هذه المخططات بالخدمات الأساسية مثل الطرق والكهرباء والاتصالات والمياه والصرف الصحي وقنوات تصريف مياه الأمطار، ومنها أيضاً ظاهرة القضاء على التنوع البيئي والفطري في هذه المساحات.
كما شهدت المدن بروز ظاهرة جديدة كان لها أثر سلبي في الجانب الاجتماعي؛ تمثلت في زيادة العزلة الاجتماعية؛ حيث كل عائلة تعيش في مكعب حجري مُغلق، لا يخرجون منه إلا لقضاء مستلزماتهم اليومية الضرورية أو زيارات عائلية عابرة في أضيق الحدود، ومن أجل ذلك يخرجون في سيارات مغلقة بالكامل تجنباً منهم لأي تفاعل أو تواصل اجتماعي مع الآخرين.
كما برزت ظاهرة أخرى مهمة وهي إعادة توزيع الشرائح السكانية حسب قدراتهم الشرائية، وتحديداً حسب قدرتهم على اقتناء المسكن المناسب في المكان الذي يرغبون فيه، وبذلك تغيرت معايير توزيع الأسر في المجال الحضري من معايير عرقية وقبلية واجتماعية إلى معايير اقتصادية بحتة تحددها المزايا الطبيعية لموقع المسكن والخدمات والمرافق القريبة منه.
إن أنسنة المدن يعدّ من أهم أهداف التخطيط الحضري الحديث، حيث ظهر هذا التوجه في أربعينيات القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتحديداً بعد تزايد استخدام السيارات في المدن العالمية الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية، حين رأى المخططون أن مقدرات المدينة ومرافقها صممت لتخدم السيارة أكثر مما تخدم الإنسان.
وهنا في السلطنة؛ وسعياً لتحقيق هذه الأنسنة؛ فإنَّ القائمين على التخطيط الحضري في مراكز الولايات أو ضواحيها، عليهم إدراك أن أكبر عائق لأنسنة المدن هو الكثافة العالية للسيارات، والاعتماد الكلي عليها. ومن أجل التغلب على هذا العائق لابد من ابتكار أنماط جديدة للتخطيط؛ تراعي النواحي الاجتماعية، وتساعد الشخص على قضاء معظم مقاصده اليومية مشياً على الأقدام، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ التوجه للتوسع الرأسي المتوسط، ولا نقصد هنا البنايات الشاهقة التي ربما تولد كثافة سكانية مفرطة، أو ربما لا تكون آمنة في حالات الكوارث. ومنها أيضاً الاستخدام المتعدد للأراضي، فمثلاً دمج الصالة الرياضية وصالة الألعاب وصالة الأفراح في مبنى واحدِ ليخدم مخططا سكنيا واحدا، مع دمج هذا المخطط السكني مع المخطط التجاري والتعليمي والترفيهي، وإنشاء حديقة عامة ومجلس عام واحد لعدة منازل، مع تقليل متوسط استخدام الفرد للمتر، وإنشاء طرق خاصة للمشاة، وطرق أخرى للدراجات، وتشريع قوانين تمنع أو تقلل من استخدام السيارات في بعض الأماكن، وإنشاء مواقف عامة للقادمين من خارج المدينة، مع توفير وسائل نقل عامة منضبطة يستطيع الشخص الاعتماد عليها كقاعدة صلبة للتنقل من مكان لآخر.
إن من أهم مؤشرات أنسنة المدن هو الإصغاء التام لصوت المدينة، ماذا تسمع في الشارع؟ أحاديث كبار السن وضحكات الأطفال، ومناداة الباعة، وتفاعل صوتي بين الناس، وأصوات الدراجات الهوائية، وأصوات متنوعة من الطبيعة؟ أم ضجيج محركات المركبات، وأصوات الأبواق؟ ومؤشر آخر عندما نتجه بأنظارنا إلى مواقف السيارات المخصصة لمرفق مُعين لنرى أن مساحة هذه المواقف أكبر من مساحة المرفق نفسه. والأخطر من ذلك مؤشر السمنة الناتج عن قلة ممارسة رياضة المشي، حيث لجأ معظم الناس للاعتماد الكلي على السيارات في كل مقاصدهم اليومية.
يقول أحد رواد التخطيط الحضري: إن توسيع الطرق وإقامة الجسور والأنفاق للتغلب على زحام السيارات، كمثل معالجة السمنة بتوسيع الثياب، بينما الحل هو تخفيف السمنة وليس توسيع الملابس.