رأي واجب في زمن الرأي

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

لقد فرَض تطور الأنظمة السياسية والاجتماعية خلال القرون الثلاثة الأخيرة مشاركة أكبر للناس فيها من خلال إبداء الرأي في الشؤون والقضايا العامة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو إدارية، كما إن سياق التاريخ ووقائع الحاضر والتطلعات إلى المُستقبل تستدعي مشاركة أكبر، وذلك من أجل حفظ كرامة الناس وضمان حقوقهم وتثبيت الأمن والسلم الاجتماعي؛ بل إن المشاركة بالرأي- سواء من خلال المؤسسات الدستورية أو خلال المؤسسات الإعلامية والصحفية- تُعَدُّ سمَة من سمات الدولة الحديثة.

وقد فتح تطور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الباب واسعًا لتلك المشاركة؛ لتشمل كل جوانب الحياة، حتى إن التعبير عن الرأي والمُشاركة به أصبح ضرورة وواجبًا اجتماعيًا من أجل زيادة الرقابة على المؤسسات المعنية بالخدمات العامة بهدف تجويد عملها وتحسين أدائها. وفي العهد الجديد لعُمان، تأكد التوجه نحو ترسيخ وتوسيع مشاركة المواطنين في الشؤون العامة؛ سواء بالعمل مباشرة في الوظائف العامة أو بالمشاركة بالرأي حول واجبات المؤسسات العامة وأدائها. وظهر ذلك التوجه جلياً في نص ومضمون الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة السلطان المعظم- أيده الله- في 23 فبراير 2021؛ حيث أكد جلالته أهمية تلك المشاركة في أكثر من موضع من الخطاب، فقد قال- حفظه الله- "لقد عُرفت عُمان عبر تاريخها العريق والمشرف كيانًا حضاريًا فاعلًا... وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية". وفي نفس الخطاب قال جلالته أيضًا: "إن الشباب هم ثروة الأمم... وسوف نحرص على الاستماع لهم وتلمس حاجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم". وأضاف جلالته: "إن بناء الأمم وتطورها مسؤولية عامة يلتزم بها الجميع ولا يُستثنى أحدٌ من القيام بدوره فيها، كلٌ في مجاله وبحسب استطاعته وقدرته". وقال جلالته أيضًا في نفس الخطاب: "إن شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني".

لقد سقنا تلك الكلمات والعبارات السامية لنستنير بها في إبداء الرأي حول بعض الظواهر، التي أصبحت تضعف الأداء وتشوب العدالة، التي ينبغي أن يكون تحقيقها هو جوهر وهدف العمل في الجهاز الإداري للدولة. وسنشير هنا إلى بعض الإجراءات والقرارات التي أصبحت محل عدم رضا من فئات واسعة في المجتمع بسبب ما ألقت به من أعباء ضيّقت على البعض من الناس في مستويات دخولهم ومعيشتهم أو أنها تنتقص من حقوقهم. ويبدو أن بعض القرارات والإجراءات الإدارية تُتخذ دون تروٍ، أو لعدم معرفة كاملة بالواجبات التي على المسؤول القيام بها، أو بالقواعد العامة التي يجب مراعاتها قبل اتخاذ أي قرار، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنَّ التأخر في اتخاذ بعض القرارات أدى إلى تعطيل مصالح كثير من الناس وحرمان آخرين من حقوق ثابتة لهم لا يمكن لأحد المساس بها إلا بقانون. ونسوق هنا بعض الأمثلة للتدليل على الحالة التي وصل إليها مستوى بعض الخدمات، بعضها خدمات أساسية للحياة وبعضها الآخر من مستلزمات العيش الكريم.

لقد تراجع مستوى الخدمات الطبية التي تقدم في المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية، فأصبح من الصعب الحصول على بعض أنواع العلاج والرعاية الصحية التي يحتاجها بعض المرضى بصورة عاجلة إلا بـ"واسطة"، وتلك وسيلة ذميمة وغير قانونية ولا يقبلها أصحاب الشيم والمروآت. ولأن الأمر في القطاع الصحي الحكومي قد وصل إلى ذلك المستوى، فإن كثيرًا من المرضى يضطرون إلى اللجوء إلى المستشفيات والعيادات الخاصة ليعالجهم في كثير من الأحيان نفس الطبيب الذي يعمل في المستشفى الحكومي! الأمر الذي أدى بكثير من المرضى من أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة إلى تكبد مبالغ كبيرة لا يستطيعون دفعها إلا باللجوء إلى أهلهم أو معارفهم. وإضافة إلى ذلك، يضطر بعض المرضى إلى السفر إلى الخارج ويتكبدون- هم وعائلاتهم- عناء السفر ومصاريف العلاج الباهظة. وليس بخافٍ على أحد أن أعداد المرضى الذين يضطرون إلى السفر إلى الخارج تصل إلى عشرات الآلاف سنوياً، الأمر الذي يستنزف الاقتصاد الوطني.

قطاع التعليم أيضًا ليس بأحسن حال من قطاع الصحة، فقد انخفض مستوى التعليم الأساسي، سواء كان ذلك في المناهج والوسائل التعليمية، أو في كفاءة المُعلمين بسبب العبء التدريسي اليومي عليهم، أو ضعف البيئة المدرسية، بما ذلك ضعف الرقابة على وسائل نقل الطلبة. كما أصبح تأخر وصول كتب المناهج الدراسية إلى الطلاب أمرًا عاديًا يتكرر كل عام، وصارت بعض الكتب تصل متأخرة جدًا إلى المدارس، بدلًا من أن توزع على الطلاب في اليوم الدراسي الأول. ولذلك فإنه بسبب تراجع مستوى التعليم الأساسي وما قبل الجامعي، تضطر كثير من الأسر في فئة أصحاب الدخول المتوسطة إلى إلحاق أبنائهم وبناتهم بمدارس خاصة، وهي مدارس بعضها أيضًا ليست بالمستوى المطلوب، لكن بعض الأسر تضطر إلى ذلك أملًا في الحصول على تعليم أفضل لأبنائهم وبناتهم.

أصبح الحصول على مسكن أو أرض للسكن بالطرق المعتادة من شبه المستحيلات، ولا زال الآلاف من الرجال والنساء ينتظرون حقهم في ذلك منذ سنوات عديدة. وقد أثار القانون الأخير لتمليك الأراضي للسكن جدلًا اجتماعيًا وقانونيًا واسعًا لم ينته حتى الآن. هذا في موضوع الإسكان، أما في موضوع تمليك الأراضي لاستخدامات أخرى، أو إصدار سندات ملكية فيها لمالكيها، فإن الأمر السائد منذ سنوات ما زال مستمرًا؛ حيث إنَّ البعض في الجهة المعنية بالموضوع ما زال يؤتي الأرض من يشاء وينزعها ممّن يشاء. وهناك أمثلة كثيرة لأملاك مورثة منذ عشرات السنين قامت الجهة المعنية باتخاذ  قرارات بشأنها من وراء أبواب مُغلقة، فجحدت حقوق أصحابها أو انتقصت منها، وقد قامت بذلك دون الوقوف على تلك الأملاك، وجهلا بشواهد التملك وأحكامه وقواعده، ودون الاستماع إلى رأي ملاكها، وكأن تلك الجهة التي اتخذت القرار تحاور نفسها في أملاك الناس غير مكترثة بأصحاب الحق. كما إنه في بعض الأحيان يُفاجأ من لديه حق أو مُعاملة لدى تلك الجهة بالقول له إن "ملف المعاملة مفقود" وعليه تقديم الطلب من جديد، وذلك بعد سنوات طويلة من المراجعة. هذا إضافة إلى المشقة والعناء اللذين يلاقيهما الناس عند استحقاق التعويض عن ملك انتزع منهم أو لطلب أرض لإقامة مشروع، مما يضطر بعضهم إلى استجداء مقابلة، حتى ولومع أحد صغار الموظفين، لعله يستطيع حل المشكلة.

تلك كانت أمثلة بارزة عن حال مستوى تقديم بعض الخدمات، وقد تحرينا الدقة في وصفها دونما إرجاف أو تهويل، ولا بخس أو تهوين. وهناك أمثلة أخرى تتعلق بالاستثمار والأعمال التجارية؛ حيث يعاني الكثير من المستثمرين وأصحاب الأعمال من المعوقات والإجراءات في بعض القطاعات، الأمر الذي أدى إلى تعطيل مصالح وضياع فرص كثيرة. وبعض الإجراءات التي اتُخذت حول التقاعد- خاصة لمن لم يبلغوا سن التقاعد، وكذلك الإجراءات التي تتخذ في إطار برنامج التوازن المالي- ثبت أن بعضها بحاجة إلى دراسة أعمق قبل اتخاذها، بدليل ما حصل من مراجعة في تعرفة الكهرباء. كذلك فإنَّ ما تم تداوله والحديث عنه في الأيام الأخيرة مثل تخفيض أو إلغاء علاوة طبيعة العمل لبعض فئات موظفي الحكومة، أو فرض غرامة على التأخر في استخراج البطاقة الشخصية للأطفال، أو نوعية وقود السيارات، هي من الأمور التي يجب النظر فيها بعناية، ومُراعاة أن ما يتم اتخاذه من قرارات يجب أن لا يمس بمعيشة الناس أو بحقوقهم، فإن لذلك عواقب غير محمودة.

المعالجات المطلوبة لإصلاح هذه الاختلالات هي بالدرجة الأولى معالجات إدارية، وتقع في إطار المُساءلة والرقابة وتحسين الأداء، وإذا تمت فسيكون مردودها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أكبر من تكاليفها المالية. هذا إضافة إلى أن كثرة لجوء الناس إلى الحاكم لرفع شكاوى ضد المؤسسات الحكومية يضعف من مصداقية المسؤولين فيها ويؤثر على هيبة تلك مؤسسات.

إن طريقة التجربة والخطأ قد تصلح في المختبرات العلمية وعلى المواد الفيزيائية والكيميائية، لكنها لا تصلح عندما يتعلق الأمر بحقوق الناس ومعاشهم ومصالحهم، وإن عدم المعرفة بالحقوق وبالقواعد والأعراف لا يبرر اتخاذ قرارات خاطئة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة