يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"لقد كان الشيخ مبارك الهران ذو سيرة عطرة فهو من أسرة علمية أخذ العلم فيها عن أبيه الذي كان من أهل العلم والفضل" بشار محمد خليفوه.
-------
وصلني قبل أيام إهداء كريم من الأستاذ طلال الرميضي عبارة عن كتاب عنوانه: "الشيخ مبارك الهران. حياته.. خطبه"، وهو بحث ودراسة وتحقيق الأستاذ بشار محمد خليفوه، والكتاب توثيقي فيه تأريخ وترجمة للشيخ الهران- رحمه الله- الإمام والخطيب الأسبق بمسجد الشراح في الدمنة بدولة الكويت، وفيما بعد أصبح إماما لمسجد بن مدعج بالسالمية، وهو من مواليد 1924م وتوفي 1990م أثناء فترة الغزو العراقي الغاشم للكويت.
ومن خلال الإطلاع على الكتاب وضح الجهد الكبير في إعداده، ويتحدث الكتاب عن نشأته ومحطات من حياته، ومكتبته ودراسته الشرعية والفقهية، ويحتوي على وثائق لخطب صلاة الجمعة مكتوبة بخط اليد، عددها 62 خطبة، ومعروف أنَّ هذه الكتب التوثيقية يجد الباحثون صعوبة كبيرة في إنجازها نظرا لمحدودية المعلومات والأخبار خاصة لشخصية اجتماعية ذات نشاط ديني، لأن الكتابة عن تاريخ أحد السياسيين أو عن حدث سياسي أسهل بكثير من هكذا كتابات مضنية.
وجدت ولاحظت من سيرة الشيخ الهران رحمه الله عدة انطباعات خصوصا الجدية في طلب العلم رغم صعوبة هذا المسعى إبان تلك الفترة الزمنية في أواسط القرن الماضي؛ إذ كان له تواصل مع مشايخ الأزهر في مصر تلكم الفترة وهي التي كان الأزهر بها منارة علمية إسلامية ذائعة الصيت، وكان من الصعب أن تجد كويتيا بسيطا يسعى للعلم الشرعي ويتواصل مع مشايخ الأزهر والتعلم وطلب العلم، ولا ننسى فقد سبقه الشيخ مساعد العازمي أول طبيب كويتي والذي درس في الأزهر وله سيرة علمية ووطنية مشرفة، وكلاهما الشيخ مساعد وبعده الشيخ مبارك الهران من نفس فخذ البريكات من قبيلة العوازم، وأما الشيخ الهران فقد كان يقطن فريج العوازم في حي الوسط وكان إماما وخطيباً لمسجد الشراح.
مما علمت عن هذه الشخصية الزاخرة الإنجاز، النادرة في زمانها أن الهران وبسبب مصداقيته وسمعته الحسنة وأمانته كان بمثابة صندوق الأمانات لأهل قريته، فقد كان البعض يودع لديه الأمانات قبل أن يسافر وأحياناً تبقى هذه الأمانات لعدة أشهر، إنما لثقة الناس بهذا الشيخ الأمين فقد كانوا مطمئنين على أماناتهم، وهذا يبين التكافل الاجتماعي ودور أهل المساجد والثقات ومكانتهم بين العامة، خاصة ونحن نتحدث عن زمن لم تكن به الاتصالات وافية، ولا التواصل كافيا، ولا حتى المؤسسات المتخصصة مثل البنوك وصناديق أماناتها، يوضح ذلك العلاقة الوثيقة بين الهران وأهل قريته، وكذلك مما لاحظته من مخطوطات خطب الجمعة أنه لم يتطرق لأمور السياسة أو يتحدث بها مما أبعده عن الجدال وعن أنه مع هذا التيار أو ذاك، وهذه خصلة زادت الثقة به ليس لأن دخول السياسة خطأ، بل لأنه نزه نفسه ونأى وانضبط في اختصاصه الشرعي مما جعله حلقة الوصل بين الجميع، ومصدر التوافق الاجتماعي.
ومما ذكر في الكتاب الشيق المفيد وأكدها كذلك الباحث طلال الرميضي القصة التي حصلت بين الشيخ عبدالله الهران (والد الشيخ مبارك) ومحمد وخليف الأذينة- رحمهما الله (1) وتتلخص القصة أن عائلة الأذينة لهم مسجد في الدمنة وليس به خطيب للجمعة، وطلبوا من الشيخ الهران أن يقوم بالخطابة كل جمعة ولمدة 25 سنة متواصلة، وذلك مقابل إعطائه صك مزرعة الخرارة (2) في الدمنة؛ وهي مزرعة لعائلة الأذينة، وبالفعل تم الاتفاق واستمر الشيخ حتى قبل وفاته بسنوات قليلة (قيل قبل وفاته بسبع سنوات)، وبعدها أتت عائلة الهران بخطيب يسد مكانه التزاما بالاتفاق، وبعد أكثر من سنتين من قيام الخطيب أكمل الشيخ مبارك الهران المدة المتبقية في مسجد الأذينة حباً وتطوعاً لله عزّ وجلّ.
الكتاب جهد مبارك من قبل الباحث المُجدّ بشار خليفوه الذي وضح جهده الكبير في إخراج هذه النسخة التاريخية المفيدة، وهنا أؤكد كما أكدت في مقالات سابقة أن التاريخ الاجتماعي هو المفترض إلقاء الضوء عليه؛ لأنه يحكي ويبين بلا رتوش الحياة الحقيقية وطباع الناس، لأنَّ التأريخ السياسي لا يمكن أن يصل لهذه المكانة لاعتبارات عديدة، ومن دواعي الكتاب أنه يبين حقيقة مكانة إمام المسجد والخطيب في تلك الفترة وكيف أنه كان موضع ثقة وتقدير لدرجة ائتمان الناس عليه بأموالهم وحاجياتهم، وقد يكون له مبادرات في صلح ذات البين، وكذلك تبين سيرة هذا الشيخ الجليل كيف أن إمام المسجد كان طالب علم وباحثا وراء العلم الشرعي حتى وصل إلى مصر، ولم يكن منزويا وراء المنبر، وهذا النموذج الحقيقي الذي بدأ بالاختفاء، ففي زمننا الحاضر كم مبارك الهران سنجد بنفس طباعه وثقة الناس به؟
الكتاب شيق ومفيد للعامة وللباحثين، ويسلط الضوء على مناحٍ متعددة من الحياة البسيطة لعامة الناس، وعلاقة المسجد بالناس، ومكانة إمام المسجد الاجتماعية، والكتاب إضافة ثرية للمكتبة التاريخية الكويتية، ويستحق المؤلف التقدير.
تنويه :
الدمنة: الاسم القديم لمنطقة السالمية حاليًا.
--------------------------
- عائلة الأذينة: من القعابيب من فخذ الملاعبة في قبيلة العوازم، وهم من سكان الدمنة (السالمية حاليًا).
- مزرعة الخرارة: تمت تسميتها بالخرارة؛ لأنها عُرفت بخرير الماء العذب الصافي، ويقع مكانها بالقرب من إدارة التحقيقات بالسالمية حاليًا.