"موشكا".. عُودِك رنّانْ

 

سعيدة البرعمية

 

لست بصدد قراءة نقدية للرواية، إنما من خلال عُودِها الرّنان، أرنو إلى طرق باب، لعلّ وعسى يجد من يصغي له ويسمو بالمناهج الدراسية التي أجهدت وأخذت أكثر ممّا أعطت.

قرأتُ تقريرًا يتحدث عن دراسة للباحثة الإيطالية أنجيلا ديانا لانجونه، عن الطبيعة والمكان في الأدب العماني، بعنوان "المناظر الطبيعية في الأدب العماني"، والتي تضمنها كتاب صدر بالإيطالية بعنوان، "المناظر الطبيعية الأدبية والسياقات الثقافية الجغرافية" من إعداد الباحثان الإيطاليان ماورو بالا وروبيرتو بوجّوني.

وأوضحت الباحثة في لقاء لها مع البرنامج الإذاعي "نوافذ ثقافية" سبب اهتمامها بالأدب العماني وهو أنَّه لا يزال غير معروف في إيطاليا، حتى في الأوساط الأكاديمية، وهذا ما جعلها تختار ثلاثة نصوص لأدباء عُمانيين هي "العودة إلى الجبال" للأديب سيف الرحبي من مجموعته "قوس قزح الصحراء"، وروايتا "سيدات القمر" للكاتبة جوخة الحارثية، و"موشكا" للروائي محمد الشحري. كما أوضحت الباحثة، أنَّ فوز جوخة الحارثية بجائزة مان بوكر العالمية له أثر كبير في وصول صدى الأدب العماني الأوساط الأدبية العالمية، وأن سبب اختيارها للنصوص الثلاثة هو المنهج الجيوكراتيك géocritique (أو الجيوقراطية)، وهو المفهوم الذي قدمه الباحث الفرنسي برتراند ويستفال Bertrand Westphal، وهو عبارة عن طريقة للتحليل الأدبي تدمج دراسة النصوص بدراسة الفضاء الجغرافي.

ممّا سبق يُمكننا استنتاج أنّ البحثُ توصل إلى أهمية الأدب العماني، كنموذج محوري رئيسي في تطبيق المنهج الجيوكراتيك، وكمادة تستحق التحليل والدراسة، لما تحمله من قيمة أدبية تميزها عن غيرها.

سوف أركز في طرحي على "موشكا"؛ كونها نموذج منهجي، للأدب العُماني الذي حلّق عن سمائنا بعيدًا نحو العالمية، بجناحين من الإبداع الميثلوجي المتأصل في روح كاتبها؛ فقد أشارت إلى الباحثة أنها عقدت معه لقاءً قال فيه: "أمي البيولوجية دفعتني إلى حضن أم واسعة، فأنا مولود في العراء، تحت شجرة، ونشأت في بيئة الرعاة الرُحل، نفترش الأرض ونتغطى بالنجوم، تعايشت مع كل الظروف الجوية والمناخات، وحالات الطقس، مع القمر والنجوم والشمس، والسّحب والرياح، مع الغبار والضباب، وأعرف شقيقاتي الأشجار، شجرة شجرة. وقد عمقت لغتي الأم وهي اللغة الشحرية من التعلق بالبيئة واحترامها من خلال الميثولوجيا، إذ توجد المئات من الأمثال والمعتقدات التي تدعو إلى احترام البيئة ومكوناتها. ولكن للأسف تلك الميثولوجيا لم تعد حاضرة في أذهان الأطفال في الوقت الحاضر".

لقد وجدت هذه الباحثة في "موشكا" ضالتها التي تبحث عنها؛ ممّا جعلها تغتنمها وتؤثر دراستها لطلابها في جامعة كالياري.. سردينيا في إيطاليا أكثر من أيّ مادة أخرى.

"موشكا" اللبانة الأنثى التي أخذت اسمها من ميناء تصدير اللبان، المتحوّلة من خلال الرواية الأسطورية إلى شجرة لبان، بعد وقوعها في الخطيئة والحكم على نفسها بالإقصاء بعيدًا؛ حيث لا حياة لبشر، "موشكا" الرواية المحبوكة من استرجاع الذاكرة للغة الشفهية، المتكئ كاتبها على طفولته أثناء كتابتها، مستلهما أحداثها من الأساطير ولغة الرعاة، تلجأ أدبيًا إلى إيطاليا لتحظى بعناية لم تجدها في سلطنتها.

هناك وجه شبه كبير، بين "موشكا" الرواية التي تُدرّس في جامعة كالياري، ولم تجد بُعد نظر يُنصفها ويعتمدها كمساق أدبي في جامعات السلطنة، وبين "موشكا" الأسطورة (الأنثى واللبانة) التي حلّت عليها لعنة الخطيئة والعقوبة، وكأن الإقصاء حلقة وصل تلاحقها أسطوريًا وأدبيًا.

 

لا شك أنّ الخبر رائع أن تنال الأعمال الأدبية العُمانية عناية واهتمامًا عالميًا؛ ولكن الأجمل تتمتع أيضًا بعناية محلية ويعمّ نفعها للعماني قبل العالمي، فقد حظيت "موشكا" برفع عالمي مدرك قيمتها الأدبية وآثرها على كثير من العلوم، الأدبية والثقافية والإنسانية؛ كنموذج قيّم للأدب العماني يُنتفع به في بلاد الغرب، وفي المقابل هي تترنح لدينا بين نصب وجزم وقِلّة فهم يَحرم الطالب الإنتفاع بها.

كما أكدت لانجويه على أن الاهتمام البيئي تجسده أيضا رواية الكاتب الثانية "الأحقافي الأخير"؛ كون أن البيئة تتقاسم الأحداث مع البطل وليس كشرطا في بناء العمل الروائي.

إنّ في الأدب العماني ما يستحق البحث والنقد والدراسة؛ فلِم يسبقنا إليه غيرنا دون إدراك أوبصيرة؟!

حتمًا، نحن لا ندرك قيمة ما بحوزتنا، وننظر دائما إلى ما بحوزة غيرنا، وننبهر به ونشغل عقولنا بعظمته. لقد أصبحنا بحاجة ماسة لإعادة النظر في هيكلة مناهجنا الدراسية، أكثر من أيّ وقت مضى، والعمل على التجديد المستمر والمتعاقب كلما دعت الضرورة، وكلما استجد جديد يحمل قيم أدبية وتربوية يُنتفع بها وتضفي الجديد والمفيد.

ماذا لو اعتُمدت "موشكا" كمحتوى دراسي ضمن مساق مادة الأدب الشعبي في تخصص الآداب في جامعات السلطنة، هل الطالب الإيطالي أولى بدراستها أو أنه على قدر عالٍ من الفهم والإستيعاب أكثر من الطالب العماني؟!  الإجابة، حتمًا لا؛ وإنما يكمن هذا في الاختلاف الكبير في الإدراك وبُعد وعُمق الفكرة بيننا وبينهم في وضع المناهج ودراستها وتحليلها.

حقًا نحن في أمس الحاجة للنظر في مناهجنا، فالمناهج الجامعة ليست أفضل حالا من المناهج التأسيسية في المدارس. كنّا نتساءل كطلاب ونقول: ماذا لو استُبدلت مادة "المجتمع العماني"- خطة طلاب السنة الأولى- بمادة أدبية تتناول الأدب العماني؛ حيث إنّ الطالب الجامعي أصبح يعي مجتمعه دون الحاجة لمساق دراسي. كذلك كثرة مساقات اللسانيات التي تكاد تتقاسم الخطة الدراسية لمتخصصي الآداب، يجب النظر في التقليل منها وتختصر في أساسيات اللسانيات في مادتين لا أكثر، كي يتسنّى لطالب الآداب أنْ يكتسب أكبر قدر من المساقات التي تخدم تخصصه دون تشعّب في مساقات تخدم تخصصات أخرى.