تَحَدَّوْنَا

 

د. صالح الفهدي

وقفَ الرئيس التنفيذي لإحدى المؤسسات المصرفية وهو يكرِّمُ كوكبةً من موظفي مؤسسته الذين أنهوا برنامج "اعتماد" فقال: "لقد اكتسبتم الخبرةَ، والمعرفةَ وإنني أدعوكم وأحِّفزكم لأَن تتَحَدَّوْنَا".

هُنا فإنني سأقفُ- في مقالتي هذه- عند كلمة التحدي لتخصُّصي في "إدارةِ وتنمية الموارد البشرية" لأقول أن كلمة "التحدي" ليسَت من المفردات المرحَّب بها في قاموس الثقافة الإدارية العربية عموماً، في حينِ أنها متوافقة مع الثقافة الإدارية الغربية، لهذا فإنَّ نطق الكلمة بالإنجليزية "challenge us" تختلفُ في تلقِّيها النفسي للعربيِّ، عن نطقها بالعربية "تحدُّونا" فالنطق بالأجنبية أخفُّ وطأً على النفس!

لهذا فإنَّ رئيساً تنفيذياً عربياً حين يقول لموظفيه "تَحَدَّوْنَا" بقدراتكم، ومهاراتكم، ومعرفتكم فهو إنما يناقضُ السَّائد والمألوف من ثقافةٍ تكرَّستْ في المؤسسات وهي ثقافة قائمة على أنَّ كلمة "التحدي" تفهم بمعنى "التمرُّد" و"التجاوز" و"التعالي" و"شق عصا الطاعة" ولا تحملُ المعنى الإيجابي الذي أراده الرئيس التنفيذي حين قال لموظفيه "تَحَدَّوْنَا" وقد كان يقصدُ تحفيز موظِّفيه ليخُرجوا كوامنَ قدراتهم، ويجرِّبوا معرفتهم، ويطبِّقوا رؤاهم.

لقد أرادَ أن يوسِّعَ لهم نطاقَ الإِبداعَ في التفكير، والإبتكار في العمل، والتحسين من صِيغِ العمل، والتجديد في أداءِ الأفرادِ، والتعميق في رؤية المؤسسة، وأن يرفعَ عنهم كلَّ عذرٍ يعتذرون به في قادمِ الأيام، ويزيحَ عنهم كلَّ حاجزٍ إداري، أو معنوي يقفُ أمامَ هذا (التحدي الإيجابي).

إنَّ رئيساً تنفيذياً كهذا إنَّما يضربُ مثلاً على القائد الذي يريدُ أن يصنعَ قادةً، لا الذي يخشى على نفسه ومنصبه من كلِّ من امتلك معرفةً، أو حازَ على خبرة وهم كثرةٌ لا تحصى..! وهنا يُبرهنُ –هذا القائدُ- على إعلاءِ (ذاته الحقيقية) التي تنشدُ البناءَ والمصلحةَ العامة فوق (الإيجو) ذات النظرة الضيِّقة التي تقدِّم مصالحها قبلَ كلَّ مصلحةٍ عُليا..! ولو أنَّ كلَّ قائدٍ قد تسامى بنفسهِ فوقَ الأُطر الذاتية الضيِّقة لكانت الأوطانُ في أرقى حالات التقدُّم، وأنضجِ مراحل التعمير والتطوير.

إن كلمة "تحدُّونا" حين يقولها القائد لموظفيه ليستَ هيِّنةً في مجتمعاتنا التي ألفتْ بعض المسلَّمات الزائفة ومنها: أنَّ الرئيس دائماً على صواب، وأنه هو الأجدرُ من غيره بالمكانةِ التي وصل إليها، وأنَّ من يخطِّئهُ في قرار، أو يخالفه في رأي فقد تجرَّأَ عليه جُرأةً لا تغتفر، وتطاولَ عليه تطاولاً غير مسموح، وسيتم وضعهُ بعد ذلك في (القائمة الخفيَّة) التي تقصيه من كلِّ منصبٍ هو أهلٌ له، وتركنه في زاويةٍ حتى يتداعى همَّاً وغمّاً!

لهذا فإنَّ المؤسسات الحكومية خاصَّة لم تستفد من دورات التدريب والتأهيل التي تنفقُ عليها الملايين لأنها لا تكترثُ لعوائدِ التدريب، ولا تهتمُّ بما اكتسبه الموظف من معرفةٍ وخبرةٍ، وكان من الخيرِ لها أن لا تصرفَ هذه الأموال الطائلة إن كانت وهي تُدركُ تماماً بأنَّ التدريبَ أو التأهيل هو مجرَّد بندٍ من بنود الموازنة السنوية!

إنني لأُكبرُ في هذا الرئيس التنفيذي أن يقول لموظفيه "تَحَدَّوْنَا بما كسبتم من خبرة، ومعرفة، ومهارة" فقد أراد أن يستنفر طاقاتهم، ويستنهضَ عزائمهم، ويرفعَ عنهم المعوقات، ويزيح عنهم العراقيل.

أُكْبِرْهُ لأنه يضربُ لنا مثلاً في القائدِ الذي يعرفُ الرجال بالحق، ولا يعرفُ الحقَّ بالرجال، ويقدِّم المنفعةَ العامة للمؤسسة فوق المناصب والكراسي والرُّتب. أُكْبِرْهُ لأنه يريدُ أن يصنعَ قادةً واثقين من قدراتهم، صادقين في اجتهاداتهم، حازمين في أدائهم، ليسوا مترددين من ارتكاب الأخطاءِ، خائفين من تأنيب المسؤولين.

ومثل هذا الرئيس التنفيذي هو الذي يقود المؤسسات بحكمةٍ رشيدة، وعقلٍ وازنٍ لا يرتهنُ إلى نظرةٍ ضيِّقة، ولا إلى مصلحةٍ ذاتية، بل يرتهنُ إلى تحدي الكفاءات التي تدفعُ بمؤسسته إلى الريادةِ في آفاق التميُّزُ والفاعليةِ والأفضلية.

ابحثوا عن مثل هذا الرئيس التنفيذي لتتقدم مؤسساتكم، وتنمو أوطانكم، وتُستثمر مواردكم البشرية والمالية والطبيعية.