من عين الحدث.. "شاهين"

علي بن سالم كفيتان

قدم الإعصار شاهين درسًا لا يُمكن نسيانه إلا من طالب بليد يركن في مُؤخرة الصف غير مكترث بملاحم بقية الطلبة المُجتهدين، وأستاذهم الذي أحرق شمعة حياته ليُنير دروبهم، فالحصيلة في نهاية الدرس لم تكن نخالة الطباشير في أسفل السبورة، وكلمات يزدحم بها اللوح الأسود بعد مُغادرة الأستاذ، لقد استوعب التلاميذ الدرس، بينما صاحبنا لا زال نصف نائم ينتظر الفسحة، ليركض كحصان جموح ويلتقم جموع السندويتشات ويرطب معدته بعلب السنتوب البارد... ربما هذا هو حال البعض اليوم.

رغم كل الأهوال التي مرَّت بي وأنا أقاوم الإعصار مع أسرتي وحيداً في بيتي، إلا أنني تمسكت بحبل ربي المتين، وأثناء مُغادرتي إلى السطح مع أبنائي يقودنا الهلع والخوف، صحت فيهم بأعلى صوتي "جيبوا شنطة الجوازات"، ولا أدري ما الذي دفعني لنسيان التذكير بكل شيء والتركيز على حقيبة الجوازات وشهادات الميلاد التي تربطني بهذه الرقعة من الأرض هويةً وميلاداً في هذه اللحظة العصيبة، بينما جر أحد أبنائي غنيمات كانت في الحوش، وأم العيال تصيح "لا حد ينسى المندوس الصغير فيه صورة أمي وبضع مناجر ذهب كانت هديتها لي في يوم زواجنا قبل 30 عاماً رحمها الله". وعندما اكتمل صعودنا إلى غرفة السطح والسماء تمطر والريح تعصف، حضرت ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز العشر سنوات، ومعها صورة السُّلطان قابوس- عليه رحمة الله- والتي كانت تضعها بجوار سريرها منذ رحيله قبل عام ونيف، تجمعنا هناك أنا وأبنائي وبضع شياه وحقيبة الجوازات بيدي والمصحف الشريف في اليد الأخرى ومندوس صغير في يد زوجتي وصورة قابوس تضمها ابنتي في حجرها، هنا علمت أنَّ السلطان الراحل غرس حبه أبعد مما كنت أتصور... رحمك الله سيدي.

قعقع الرعد وعصفت الريح بقريتي ولعب السيل في كل غرف بيتي، غير آبهٍ بنا ولا بصيحاتنا؛ ليدوي انفجار عظيم اهتزت منه كل القرية، لقد انفجر محول الكهرباء الذي يُغذي كل ولايتي وانقطع النور، وجاء فصل آخر أشد رعباً وإيلاماً، فقد بت عاجزًا عن القيام بأي شيء لأسرتي الخائفة، فدسست يدي في جيبي فوجدت هاتفي ما زال يعمل وبه 30% من طاقة البطارية، فاتصلت بمركز الطوارئ؛ ليجيبني أحدهم فورًا ودون مُقدمات أين موقعك؟ أخبرته بالضبط، نصحني أن أهدأ وألا أبث الخوف في الأسرة، وقال لي "ارتفعوا إلى السطح"، فأخبرته أننا على السطح، فقال لي: لا أحد ينزل ولا تقتربوا من الماء، فمثل هذه الحالات يسري بها تيار كهربائي قاتل. تعجبت من هدوئه وثقته، ومنحني إيحاء عميق بأنهم قادمون إلينا لا محالة، فاستعدت بعض حواسي واستجمعت قواي، بينما تسأل زوجتي بصوت مبحوح ماذا قالوا لك؟ فأجبتها "إنهم قادمون". هنا صاح العيال حولي بصوت واحد "الحمد لله"، ونظرت إلينا الشياه بعيونها الذابلة شبه النائمة، وقبل حلول الفجر سمعنا صوت النجاة يطوف على منزلنا؛ إنِّها الطائرة العمودية، ورن هاتفي فأجبته ليقول لي أحدهم "معاك العمليات.. شرطة عُمان السلطانية.. الطائرة تحوم حولكم أصعد للسطح وسيتم انتشالكم"، وقال مردفاً: "فلتكن الأولوية لكبار السن والأطفال". فتحتُ باب حجرة السطح ونظرت إلى السماء المنهمرة وأهتز فؤادي فرحاً وفخراً مع كل صوت تصدره الطائرة العمودية؛ وهي متسمرة في وجه العاصفة على منزلي تماماً؛ ليتدلى الحبل ويأخذنا الواحد تلو الآخر، فأنا لم أتنازل عن حقيبة الجوازات وكذلك زوجتي ظلت محتفظة بمندوس أمها، وبنتي تشبثت بصورة السلطان قابوس. أغلق الملاح الباب ولفنا ببطانيات دافئة كدفء الوطن؛ لنرحل من عين الإعصار بعد أن شاهدنا الموت.         

الرهان كان على وطنيتنا من رؤوس الجبال حتى ضربة علي، فقد سقط كل متاع غير ضروري وباتت الأولويات واضحة، وعلم من لا يعلم أين مكمن قوة هذا الشعب في لحظات كهذه؛ لقد قُدم درس من نظرية كسب العقول والقلوب، التي وضعها السلطان الراحل- رحمه الله- فهبَّ كل من نبت من تراب هذه الأرض وعاش كل فصولها قاصدًا الولايات المنكوبة في سهل الباطنة، فازدحمت كل الممرات التي تُؤدي إلى السويق والخابورة وصحم، وأتى المدد من كل فج عميق.. مالٌ ورجال ونساء وأطفال، وكلٌ يحمل ما يقدر على حمله، فلا وقت للتأخر، فقابوس يرقد بسلام ونحن رُسُله في كل شبرٍ من هذا الوطن.