علي بن سالم كفيتان
ينتابني شعور عميق بالحزن والأسى على الأرواح التي فقدناها بمرور "شاهين"، فقد كنت أمنّي النفس أن نجد غسان رغم قساوة وعنف وادي عدي الذي جرف هذا الشاب العشريني الجميل، وهو يخوض بحافلته لتوصيل عمال صبيحة يوم الإعصار، فهل يا ترى ما الذي جعل غسان يُغامر في تلك الساعة الحرجة بحياته؟! هل هو الخوف على وظيفته؟ أم جشع شركته وإصرارها على العمل في ذلك اليوم العاصف؟ أم كان يقوم بعمل إنساني لإنقاذ رفاق العمل إلى مكان آمن بعد تهدم الكثير من معسكرات العمال؟ أم أنه سوء تقدير ومجازفة غير محسوبة من شاب صغير لا يُجيد حساب المخاطر؟ كلها أسئلة يجب الجواب عليها بشفافية؛ فالعمال تمَّ إنقاذهم ويمتلكون الحقيقة الكاملة.
والأمر ذاته للأسرة التي قضت بكاملها في ساحل الباطنة حيث مر الإعصار ولم يتبقَ منهم الا الطفلة لما التي يجري البحث عنها كيف مرَّت دقائقهم الأخيرة قبل الرحيل؟ ولماذا لم تمنحهم الأقدار الوقت الكافي للهروب من الطوفان؟ كل تلك المشاهد تغض مضاجعنا كعُمانيين مُحبين للحياة ونتساءل عن سبب عدم إخلائهم في الوقت المناسب... لا شك أنَّ هذه التساؤلات لن تعيدهم إلينا ولكنها قد تساعدنا في قادم الأيام لمنع تكرار المشهد فكل نفس غالية علينا في هذا الوطن ونحس بألم الفقد مهما باعدت بيننا الجغرافيا لأنَّ عُمان الوطن يجمعنا في السراء والضراء ولأن السلطان الراحل- عليه رحمة الله- راهن علينا وزرع فينا قيم المُواطنة الحقة، هنا في الجنوب الناس لم تهدأ منذ الساعات الأولى للإعصار لاحظت وأنا أرقب مجموعات الواتساب؛ فهاتفي يرتجف طوال الوقت من كثرة الرسائل والمقاطع الإنسانية وحتى قبل مرور الشاهين المُدمر بدأت الجمعيات والفرق الخيرية تتأهب للقادم لذلك نصبت الخيام أمام الجوامع وهبَّ الناس للدعم من كل حدب وصوب ونترقب قوافل ظفار التي لم تتأخر يوما عن كل شبر يُعاني من الوطن.
من المشاهد التي أثرت في نفسي قدوم بنات صغار دون العاشرة لمواقع تجميع المساعدات في عوقد إحداهن هي الطفلة مها سألتها ماذا لديك؟ قالت: هذا فراش وغطاء وحقيبة فيها بعض الاحتياجات الضرورية للبنات مثلي وعندما فتحتها رأيت دمية وكراسة رسم وألوانٍ خشبية، وأشياء أخرى، لقد كانت مها سعيدة بهذا العطاء.
في مثل هذه الأوقات الحرجة لا مجال للوم وتوجيه الاتهامات بالتقصير فليس الحديث الآن مناسب لنتكلم عن سوء التخطيط العمراني وعدم حساب مخاطر الفيضانات وتغير المناخ وإجراءات التكيف المطلوب اتباعها بل الوقت للملمة الجراح ومواساة إخواننا الذين باتوا بلا مأوى بعد أن فقدوا كل شيء في غمضة عين في هذه اللحظات الحرجة من الزمن تكون زيارة كبار المسؤولين ورجال الدولة للمناطق المتضررة بلسماً يداوي الجراح فلنجلس معهم على الأرض ولنهب لتنظيف ما تبقى من بيوتهم ومزارعهم ولننصب الخيام الميدانية في ولاياتهم لتوفير احتياجاتهم الضرورية من المأكل والمشرب لنعبر لهم عن تضامننا الصادق معهم من مسندم إلى ظفار لا مجال للتشكيك في الإجراءات الحكومية والصناديق الخيرية من ساهم جزاه الله خيرا ومن فرَّج كربة أخيه في ميزان حسناته ليوم الدين فالوطن يقوم على أبنائه وتعاضدهم في مثل هذه المحن ومن ثم سنناقش ما تم وكيف نتقي تكرار ما حصل.
في سلطنة قابوس بن سعيد وعهد هيثم الخير لا مجال للعودة إلى الخلف؛ بل الدفع بالأمور إلى الأفضل فوفاؤنا لباني عُمان ومؤسس حضارتها هو وقودنا الذي لا ينضب لمداواة جروحنا بالعطف واللين، فعُمان اليوم تتداعى في كل شبر منها لنجدة المحتاج وإغاثة الملهوف وهذه هي شيمنا التي نحيا عليها وعليها نموت فالباطنة الغالية التي تحوي نصف سكان عُمان لطالما لبت النداء وهمت بالعطاء فهي مخزون الوطن الذي لا ينضب ففيها ولدت المكارم والشيم النبيلة بيوت لا يهتز عودها وخيام كتب لها أن تظل واقفة كشموخ جبال الحجر فهي مهد الدولة وحضور السلاطين هناك تهدر خير قبائل عُمان التي نافحت عنها ودفعت فلول المُعتدين لقرون انها الباطنة قلب عُمان النابض وسيظل كذلك بإذن الله وسيكتب لنا التاريخ ملاحم أخرى سننفض الغبار عن الخابورة والمصنعة والسويق وبعدها سنستمتع بجريان وديانها الجميلة وربيعها النادر وشتائها الآسر بعد هطول المطر وستكون سنة خير علينا وعلى عُمان.
لن نستعجل المكرمات السامية واللفتات العظيمة لمولانا تجاه شعبه فهو الطبيب المُداوي لكل جروحنا في الأوقات العصيبة نقدر كل الظروف التي تمر بها بلادنا منذ رحيل سلطاننا الغالي ودخولنا في مرحلة انتقالية صعبة لا مكان فيها إلا للأوفياء والمخلصين فالذهب لا يلمع إلا باللهب والزمن كفيل بتبيان النفوس.
حفظ الله بلادي.