سعيدة البرعمية
على هامش الهامش، أكتب مقالا يُسرِّبُه حبري خِلسة، أو كنجم باليقين يهوي إليكم. تستحوذ الحواشي مساحة جمّة من اهتمامي، فعلى هامش ذاكرتي يقبع بعض ممّا خطّه قلمي عليها.
ومن أعمق ما حظيت به حاشيتي يوماً ما، عبارة منذ خمس سنوات تقريباً، للكاتب غسان كنفاني، كتبتها على حاشية إحدى صفحات رواية "عائد إلى حيفا"، كانت العبارة على لسان الشخصية سعيد (س) قالها لزوجته صفية "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألاّ يحصل ذلك كلّه"!
هي عبارة برأيي تختصر كلّ الرواية، انهال منها فيض غزير من التحسف واللوم على التفريط المُخزي بالأرض والمقدسات؛ بل إنّها تختصر كلّ ما قِيل وسيُقال في حبّ الأوطان والحفاظ عليها.
وحدها الحواشي تحظى بالجواهر واللآلئ النفيسة، فعندما نتناول كتاباً للقراءة أو للدراسة نستخلص ما فيه من أفكار وجماليات ونكتبها بعناية على الهوامش؛ فهي بمثابة واسطة العقد لكل فقرة.
للهامش استعمالٌ حياتيّ يختلف تمامًا عن المعنى الأدبي، فهو يُستخدم للعتاب، وقلة الاهتمام؛ فمثلاً قد تجد نفسك أمام صديق حميم لم تره منذ زمن، صدفة في محطة الوقود أو أيّ مكان آخر؛ فيرمقك بنظرة ويقول مُعاتبًا: "وينك يا صاح؟ صرنا على الهامش"، إشارة منه لك على مدى تقصيرك معه؛ فتتلعثم ولا تدري كيف تجاوبه وبعد أن تستجدي ملامحك وشفتيك بابتسامة جافة مصحوبة بالخجل تخفي مبسمك خلفها، تقول ووجنتيك محمرتان، هي الحياة يا صاحبي، "يشهد الله أنك على البال" وتردف بخجل وحروف ضعيفة غير مجدية "الانشغالات لا غير".
وبعد القليل من المجاملات على عجالة يذهب كلّ منكما في طريق وتجد نفسك فجأة في السيارة تنهال عليك الأسئلة، "بابا وين الآيسكريم" تضيف الزوجة: "سلامة عقلك وين الكوفي؟".
ترجع شارد الذهن تُردد كالببغاء "كوفي وآيسكريم، كوفي وآيسكريم" دون أن تشعر، هناك من يمرّ بجانبك وهو يُداري ضحكته، وفتاة صغيرة في مقتبل العمر تطلق ضحكة مخنوقة واضعة يدها على فمها تكفكف ضحكتها، ويصرخ في وجهك عجوز قائلاً: "انْكَبْرَدكْ منْ إِينَه؟! أيّ بمعنى "جُننت أم ماذا؟!
خرج العجوز يهزُّ رأسه مستنكرًا ما سمع ورأى، والفتاة تضيف إلى يومياتها مشهدا عابرا تُضحك من خلاله صديقاتها. كان صديقك هذا أوَّل من دقّ أوتاد خيمته على هامشك، وفي المُقابل كنت أنت أول من نصب خيمة على هامشه، ولكن أين تلك الخيام، أهي الأيام التي اقتلعتها، أم اجتثتها الرياح العاتية، أم من الشمس أصبحت رثًّة بالية كالمظلة الممزقة التي لا تقي المطر ولا يُستظل بها، ممّا مزق أواصر الصداقة بينكما!
هل فكرت باستعادة تلك الصداقة وضمّها مجددا إلى حضن هامشك! إذن كيف؟
أيرضى هو مجددًا أن يعود صديقك! وماذا عمّا نجم من أضرار للعاصفة؟
هيهات أن يرجع ما عصفت به العواصف؛ فقد منحتَ هامشك لمن تراهم في نظرك النخبة، فعبثوا فيه وأكثروا الخداع، فابتعدتَ بسببهم عن كلّ صادق ومحبّ، وأمسى هامشك جارحا ومجروحا، كشجرة الهيل المغروسة على رأس الوادي، يُخيّم عليها ما خيّم عليها من ألغاز وغموض غيّب أصل الحقيقة.
ماذا لو اخترت على هامشك مُفردات الصداقة، مُنمّقة بعبارات البديع والبيان، مستثنياً منها
كلّ لغوٍ وإبهام، فتسدّ بذلك ثغرات كلِّ صَرْصَرْعاتية، فتُعيد زهو الوفاء إلى روحك وتبعدها عن ملعب لئيم عابث.
ماذا لو عزفت على هامشك بالقرب من هامشه، لحن الصداقة بصوت ماجدة الرومي.
كم جميل لو بقينا أصدقاء // كم جميل لو بقينا أصدقاء
----------------------------
المفردات:
شجرة الهيل: عنوان لقصيدة قديمة من الثراث الظفاري بلهجة أهل الساحل في صلالة، بسرد قصصي جميل، يسودها الكثير من الغموض؛ لذلك اختلفت الآراء حول دلالتها.