أمة في خطر!

 

د. محمد بن عوض المشيخي

"أمة في خطر" هو عنوان الدراسة التي أعدتها 18 شخصية تربوية من الخبراء الأمريكان في مجال تطوير التعليم، وذلك في أعقاب صرخات تحذيرية من خطورة تدني مستوى التعليم العام في هذه الدولة العظمى التي تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم، فقد قرر الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان تشكيل تلك اللجنة في مطلع ثمانينات القرن الفائت لتدرس واقع المناهج التعليمية وكفاءة المدرسين ومستويات الطلبة بالمقارنة مع الدول المتقدمة.

خلصت نتائج الدراسة التي هزَّت أمريكا من أقصاها إلى أقصاها؛ إلى تدني متوسط تحصيل طلاب المرحلة الثانوية في العلوم والرياضيات والكتابة الإنشائية، وكذلك ضعف مستوى طلبة المدارس بشكل عام في مهارات التحليل والنقد والإبداع، بينما حصل الطلبة الأمريكيون على المرتبة الأخيرة في سبع اختبارات على مستوى الدول المتقدمة. كما اختزلت الدراسة التي اشتركت فيها الجامعات وأولياء الأمور بالإضافة إلى فريق العمل المشكل من البيت الأبيض وجود فجوة بين الأداء الحقيقي الضعيف للطلبة وبين التقديرات المرتفعة التي يمنحها الأساتذة لهم. إن اعتراف الحكومة الفيدرالية والمجتمع الأمريكي بوجود مشكلة حقيقية في نظام التعليم، ساعد بشكل سريع على التعرف على التحديات ثم تقديم الحلول لتطوير التعليم ورفع مستواه لكي يرجع إلى مستواه السابق في المقدمة على مستوى دول العالم.

لا شك أنَّ التعليم هو أساس التطور والنجاح في أي مجتمع، فلا يمكن النهوض بالمجتمع من ثالوث الجهل والتخلف والمرض؛ إلا باعتماد استراتيجية وطنية واضحة المعالم تعتمد على إعداد المعلم المتمكن والكفؤ وتطوير المناهج والكتب الدراسية التي تتضمن آخر المستجدات العلمية، وقبل ذلك كله تهيئة المناخ الاجتماعي والنفسي الذي يجعل طالب العلم  محبا ومقدرا للدراسة ويحترم المعلم، وهنا يكمن دور الأسرة التي ترعرع فيها التلاميذ لغرس القيم التربوية والأخلاقية وبناء جيل واعد يمكن الركون إليه في مستقبل الأمة.

يجب التذكير هنا بأن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في كثير من دول العالم سببه فشل النظام التعليمي وغياب جودة منظومة المعرفة التي يمكن الاعتماد عليها في بناء ما يعرف باقتصاد المعرفة الذي يعتمد على عقول الأجيال الواعية والمتسلحة بالعلم؛ وليس الشهادات الورقية فقط التي لا تعبر بأيِّ حال من الأحوال عن تنمية العقول واستخدام العلم والمهارات المعرفية والإبداع والابتكار في بناء الأوطان. لقد نهضت العديد من دول العالم شرقا وغربا بسبب انتهاجها سياسية تعليمية موفقة معتمدة في ذلك على التخطيط السليم، فاحتلت المراتب الأولى على مستوى جودة التعليم في العالم مثل فنلندا واليابان وسنغافورة؛ مما انعكس على تفوق هذه الشعوب ونجاحها في الاختراعات العلمية وتصدير التكنولوجيا لمختلف دول العالم؛ على الرغم من افتقادها للموارد الطبيعية الوطنية والمحلية، فأصبحت بفضل عقول أبنائها المخلصين والمجتهدين من طلاب العلم في مصاف الدول المتقدمة.   

فإذا أردنا أن نتعرف عن قرب على واقع التعليم في بلدنا نجد أن العملية التعليمية تعتمد بالدرجة الأولى على ثلاثة عناصر أساسية تتمثل في المناهج الدراسية، والطالب الذي هو مستهدف من هذه العملية، والمعلم الذي يعد العنصر الرئيسي وصمام الأمان لنجاح التعليم وازدهار المعرفة. وطوال السنوات الأولى للنهضة، نجحت الحكومة في نشر التعليم في كل ركن وزاوية من هذا البلد العزيز، وذلك من خلال الاستعانة بالمدرسين الوافدين وجلب المناهج التعليمية من دولة قطر الشقيقة خاصة في عقد السبعينيات من القرن المنصرم. ومع مرور السنوات وتطور التعليم الجامعي، تم فتح أبواب كليات التربية في مختلف أنحاء السلطنة للراغبين بالانخراط في سلك التدريس من العمانيين، ذلك لوجود أعداد كبيرة من المدرسين الوافدين من الدول العربية والصديقة. ونتيجة تدني الرواتب المخصصة للمعلمين في السلك التدريسي وربط هذه المهنة بنظام الخدمة المدنية في ذلك الوقت، كان يتم القبول في هذه الكليات لمخرجات الثانوية العامة الذين حققوا أقل النتائج، خاصة الذكور الذين لم يتم قبولهم في الدراسة في جامعة السلطان قابوس، أو الابتعاث للخارج، أو السلك العسكري.

المشكلة تكمن هنا في غياب الدافع للعمل في السلك التعليمي خاصة من الذكور، فأصبحت وظيفة المعلم تذهب لمن لم يجد فرصة أفضل في المجالات الأخرى؛ فالمدرس في بلدنا يخرج من المدرسة ليذهب إلى السوق أو المنطقة الصناعية للبحث عن مصدر رزق إضافي لأسرته؛ فعلاوة التدريس حوالي 60 ريالًا فقط. كما إن المكانة المقدسة للمعلم أصبحت في هذا الزمن مفقودة، فلا يحظى المعلم بالاحترام والتبجيل الذي يتردد على مسامعنا عبر تراثنا الخالد. أين نحن اليوم من قول أحمد شوقي "كاد المعلم أن يكون رسولا"، وكذلك المقولة المشهورة "من علمني حرفاً كنت له عبدًا"؟

هناك تجارب رائدة في إنصاف المعلم وإعطائه حقه ومكانته التي يستحقها؛ ففي لوكسمبورج هذه الدولة الأوروبية الصغيرة، يبلغ راتب المعلم أكثر من 10 آلاف دولار أمريكي شهريًا، بينما نحن نساوي المعلم بالموظف العادي الذي أنهى الدراسة الجامعية. إن الرواتب المتدنية للمعلمين قد جعلت هذه المهنة طاردة للخبرات والكوادر الأكاديمية، فأعداد المعلمين الذين يطلبون ترك مهنة التدريس والانتقال إلى العمل الإداري والمكتبي في تزايد مستمر، فبعض المصادر تقدر هؤلاء بالآلاف في كل منطقة من المناطق التعليمية. فقد أصبحت ظاهرة البحث عن أعذار ومبرارات لترك مهنة التعليم واضحة ومعروفة، فالذهاب للمستشفيات ومقابلة الأطباء للحصول على تقارير طبية، لعلها تعفي صاحبها من الدخول للصف والخروج من سلك التدريس، أصبح أمرا معتادا ومعروفا لدى الجميع خاصة المسؤولين في وزارة التربية والتعليم.

لقد كشفت الدراسات العلمية المهتمة بتصنيف الدول حسب جودة التعليم الابتدائي احتلال السلطنة المركز 88 عالميا والمستوى قبل الأخير بالنسبة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بينما لم نكن أكثر حظًا في تقرير منظمة الملكية الفكرية حول مؤشر الابتكار العالمي لعام 2020 والذي يضم 131 دولة حول العالم؛ إذ يشير هذا التقرير إلى تراجع تصنيف السلطنة 4 مراتب عن عام 2019 ليصبح ترتيبها 84 عالميًا.

وفي الختام.. يجب إنصاف المعلم في هذا البلد ووضعه في المنزله التي يستحقها معنويا وماديا، فهو مربي الأجيال وحامل راية العلم والمعرفة، ورفع راتبه أصبح من الضروريات لكي نمنحه الفرصة والوقت للتحضير العلمي للدروس، وشراء الكتب والأجهزة المناسبة التي تعينه على أداء واجبه المقدس، كما إن تحسين وضع المدرس ومضاعفة راتبه سوف يجعل من هذه المهنة جاذبة للمتميزين علمياً لدخول مهنة التدريس في المستقبل كما هو الحال في كثير من الدول المتقدمة في مجال التعليم.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري