أساطين الثقافة وفنونها (4)

 

"البخشة" أو "البقشة"

وداد الإسطنبولي

ثمة تفاصيل مخبأة بالذاكرة- رغم الزحام- بأماكن تحمل في طياتها أريج الذكريات، فتطبع صورا جميلة واضحة، ولربما يراها البعض منِّا فراغاً لا معنى لها ولا أثر؛ ولكن تظل هي لحن الالتقاء، ووسيلة تفوح منها رائحة العمل الدؤوب لأناسها، وملامح تبرز جهد حاملها في وضعها على هامة الرأس بكل ثقة وإتقان، رداء من قماش يضع فيه حوائجهم أصبح رمزاً لكل شيء عالق في الذاكرة.

وقد أمسى مصطلح البخشة أو "البقشة"- كما يتم لفظها عند بعض الدول في شبه الجزيرة العربية لتقارب الثقافات والعادات، ولربما تحمل عنواناً آخر في أوطان أخرى بقصة تختلف عن قصصنا- يحكي حقيقة رسالة فيما تحمله هذه "البخشة" من أشياء صغيرة رمزية، وربما ثمينة لا بالمادة وإنما معنوية. مع الحداثة.. أمست "البخشة" موروثًا وفنًا وثقافة، حاولت إيقاظها من سباتها العميق، لنعرف عن القيمة الحقيقية لهذه الملفوفة ببقايا الماضي، ونسترجع معها ذاك الزمان الجميل.

فالبخشة- لمن لم يُعاصر ذلك الجيل ولم يسمعها منهم- هي قطعة من القماش توضع فيها الأشياء والأغراض. كانت الأمهات والجدات في مُحافظة ظفار تضع في "اللوسي" (*) كمصطلح محلي الأشياء والأغراض لعدة مآرب: كنقل الأغراض من مكان لآخر، أو حمل بضاعة البيع من بيت لآخر، أو وضع الطعام فيها والانتقال من البيت "للغارف" أي "المزرعة".

هنا... أجد أنَّ الموروث ليس فقط الفنون، وإنما أنواع أخرى تندرج تحت مسماه الواسع للفلكلور، الذي يختلف حسب البلاد التي ينتمي إليها، واختلاف الشعوب ونظرتهم لموروثهم.

وفي هذا السياق أرى ارتباط هذه البخشة ومهمتها، كأهمية قول سيدنا موسى: "وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى". فاعتماد الراعي على العصا وأهمية وجودها بين أصابعه وعدم الاستغناء عنها؛ فهو لا يقل أهمية عما تقوم به هذه "البخشة". فهي لها مآرب أخرى كالصداقة بينها وبين حاملها، كالتاج على هامة الرأس، لا يشعر صاحبها بثقل حمولتها، بقدر ماهي كالوطن له، تحمل قوت قسوة عيشه، وآلامه وغربته وبقائه أين ما حل.

فهل المسمى الحديث الآن للبخشة (الحقيبة) يحمل نفس المعنى؟!

لا أرى إلا أنَّ الأخرى لها طابع خاص، فهي تتمرد معه في الشقاء والمسرة، ومذاق عبق تلك الحقبة الجميلة، بين أزقة الحواري الضيقة في ذلك الزمن، وربما لها جوهر معنوي لا يدرك جماله إلا من عاش حقبة ذلك الزمن، واستشعر بمكانة "البقشة" الذي لا يندثر مفهومها عند من ارتبط بها.

لا أحد يعبأ بتفاصيل الجمال والكشاخة وإنما أهمية ما تزفه تلك اللفافة للأحياء.

الغرابة أنَّ من التفاصيل الصغيرة تبقى نموذجا حيا مهماً حاول الزمن أن يبتلعه، والبخشة أصبحت فنا وموروثا أصيلا في ذاكرتنا الصغيرة، ومعزوفة جميلة وفنا من أساطين الثقافة وفنونها.

*************

اللوسي: أي اللحاف الذي تلبسه المرأة

 

 

 

الأكثر قراءة