د. صالح الفهدي
يعتقدُ البعضُ أنَّ المسلمين كلَّما تراجعوا في حضارتهم يتَّصلون بمنهجِ الإِسلام، ولهذا فإنَّهم يناصرون كلَّ جماعةٍ منغلقةٍ على أفكارها، متحجِّرةٍ في أفهامها، وكأنما هي التي استوعبت أصول الإِسلام، وهذا من وجهةِ نظري توجُّه أضرَّ بالإِسلام أيَّما ضرر!
الإِسلامُ في أَصلهِ يدعو إلى عِمارةِ الأرض قال تعالى:"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (سورة هود: 61). والتعميرُ لا يقفُ عند نقطةٍ محدَّدةٍ وإلاًّ فَقَدَ معناهُ، وهدفه، وإنما يواصلُ تقدُّمه في الأدوات، والسُّبل، والأفكار، والنظم، وعلى ذلك فإن الإِسلامُ يفترضُ أن يكون المسلمون هم روَّاد نهضة العلم– كما كانوا- لا متأخرين عنها، وهم قادة حضارة– كما عُرفوا- لا تابعين لها.
إذن لمصلحةِ من يُنمي البعض التأخر في طرق العيش، وفي منهجية الأفكار إلى الإِسلام، بل ويجعلونها نموذجاً يفترضُ أن يحتذي به المسلمون!!
ومن المفارقات الغريبة أن الدول المتقدِّمة في عمارتها، وفي سبل عيشها، ومناهج تعليمها وصناعتها وإدارتها هي غير مسلمة، لكن الأغرب أنها هي الأكثر تطبيقاً لأعظم القيم التي حثَّ عليها الإِسلام في قيامِ الدول وأهمها: الحرية والكرامة والعدالة والمساواة!
إنَّ الخطأ الذي ارتكبه بعض علماء المسلمين في اجتهادهم هو ربطُ قيم التحضُّر والعصرنة والإنفتاح على العالم بصور الإنحطاط الغربي في القيم الأخلاقية، وهُنا سوَّقوا كل تطوُّر بأنه اتباعٌ للغرب في رذائلِ قيمه، وانحطاط أخلاقه، واستخدموا الحديث الشريف "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه"، سواء أكانَ في موضعهِ أو في غير موضعه! ولعلَّنا نستمعُ إلى كثيرٍ من الخطباء لا يذكرون الغربَ بمحاسنِ الأقوال؛ بل بأقبحِها، وكأنَّما الغربُ لم يقم على حضارة، ولم يرتكز على قيم، وليس له أخلاقيات نحنُ لسنا في صدد التوسِّع فيها في هذا المقام.
أذكرُ أن استاذًا عربيًا وقفَ وهو يزمجرُ ما إن انتهيتُ من محاضرةٍ لي في إحدى الجامعات تعرَّضت فيها لمقولة رائد الإصلاح في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين ومفتى الديار المصرية الإمام محمد عبده حين زار فرنسا: "وجدتُ الإسلام ولم أجد المسلمين"، وقف هذا الأُستاذ الجامعي وهو يرعد بين طلابه على مدرجات الجامعة: "من محمد عبده هذا؟" وأخذ يشتم في الغرب، ويذكرُ كل رذيلةٍ فيه، وينهي خطابه الحماسي بقوله: "وهنا القوة، هنا لا إله إلا الله، فصفق له طلابه تصفيقًا حارًا"!
استأذنني نائب العميد في الجامعة كي يردَّ عليه، فردَّ بخطابية متعقلةٍ هادئة، لا صريخَ فيها ولا شطط، موردًا آياتٍ من القرآن في ردِّه على ذلك الأستاذ الجامعي الذي يغرس في عقلية طلابه كره الغرب وما يأتي به من جديد التحضر، بحجَّة أن فيه فسادٌ كبير، وانسلاخٌ من القيم، ثم يُعمي أبصارهم عن رؤية المعايب التي حالت دون تقدم المسلمين.
الإِسلام لم يقم على كلمة "لا إله إلا الله" وحدها، وإنما قامَ عليها وعلى الاستقامة، لهذا يقول الحديث الشريف "قل: آمنت بالله ثم استقم"، وصحيح أن القوَّة في "لا إله إلا الله"؛ لأنها كلمة التوحيد، لكنها بغير استقامة تضعفُ فعلها على الواقع، وهذا ما يحدث لكثيرٍ من المسلمين: يرددون شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" ولكنهم غير مستقيمين على القيم التي تتبعها.
ليس من صالح المسلمين أن ينسبوا التقوقع إلى الإسلام، ولا أن ينسبوه إلى جماعةٍ أو حركةٍ هي ضد معطيات العلم والتحضر لأن في ذلك إضرار بالصورة العامة للإسلام وتقديم أدلَّة يحتاجُ إليها الذين يصفون الإسلام بأنه دينٌ متأخر، يناقض التقدم الحضاري.
لننظر إلى تركيا الإِسلامية كيف تقدَّمت في صناعاتها، وعمارتها واقتصادها، فقدَّمت صورةً عن الإسلام بأنه يدفعُ المجتمعات نحو التغيير، ويدعمها نحو التقدم، ويسندها نحو الحداثة، وتركيا قد نال الحسنيين فقد حفظت عقيدة الإسلام وافتخرت به، كما أنها تقدَّمت في مجالات مختلفة في الحياة حتى فاقت الغرب في بعضها، ولننظر إلى ماليزيا التي تبنَّت مشروع "الإِسلام الحضاري" فجعلت منه مشروعَ تقدِّمها وعمرانها.
خلاصة القول.. إنَّ التقدُّمَ روحُ الإسلام، إرتهاناً إلى أن التعمير هو أساس رسالته، ولا يمكن نسبة الإِسلام إلى ما يناقض التقدم العصري بحجة أن فيه إفسادٌ للأرض والإنسان، فتلك حجة الضعيف والإسلام لا يريد أبدًا أن يقوم على ضعيف؛ فـ:"المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضَّعيفِ" (رواه مسلم).