ظفار تميط اللثام عن ربيع جميل

 

 

علي بن سالم كفيتان

 

في ظل أجواء مشحونة عبر العالم الافتراضي أوقفتُ زياراتي مؤقتًا لمنصات التواصل الاجتماعي لا أدري هل هو هروب أم واقعية أم أنني سئمتُ من النبرة التشاؤمية التي تكاد تسد الأفق ولا تترك لنا مساحة ولو بسيطة للتفاؤل؟

لديَّ صوت خفي يقودني دائماً لبث الأمل في أصعب اللحظات، فالإنسان هنا تعود على خوض أصعب الظروف فالقحط يأخذ حقه أحيانًا، لكن المطر لم يتأخر عن موعده يومًا لقد ظل وفيًا لنا، فمنحنا الأرض كل كبريائنا وقدمنا لها فلذات أكبادنا لم نبحث عن مغانم أبعد من عودة الرداء الأخضر الجميل إلى ربوعها وأن يحل السلام والوئام كل جنباتها.

توشحت ظفار بثوبها الزاهي بعد المطر والضباب وباتت الربى والوهاد تغازل بقايا السحب الشاردة من المحيط لتختفي في الوديان من ريح الشمال ونسماته الحارة وباتت النوق تزفن كل مساء في القطن شوقاً للمرعى بينما الذباب الحارس يعمل بكفاءة على وقف هذا الزحف ويقوم بتأجيل مراسم النزوح العظيم فالأعشاب لم يكتمل نموها بعد ولم تطرح بذورها للموسم القادم لذلك لا تسمح الطبيعة إلا بالرعي ليلاً عندما تنام ذبابة المراعي. يظل هذا الموسم هو المثالي لراعيات الأغنام فالرعي وفير والأجواء حالمة ولا أظن أنَّ الرعاة يأبهون الآن بالحديث عن الأعلاف الحيوانية المصنعة ولا بهدير قضية الباحثين عن عمل وأزمة كورونا فقد تغير مزاجهم وراقت لهم الأيام وكأنهم ملكوا الدنيا، ليتهم يمهلون الأرض بضع أسابيع حتى تجف الأعشاب وتطرح حمولتها مجدداً، ليتهم يرحمون بقايا الأشجار التي ظلت صامدة رغم عاديات الزمن، ليتهم يمنحون البادرات الجديدة الوقت الكافي للنمو لتعود ظفار جنة الدنيا وعروس جزيرة العرب فقد توصلت إلى قناعة بأن الأرض لا يسمع بكاءها وأنينها إلا صاحبها ولا يمكن لكل قوانين الدنيا أن تعيد شجرة وتمنحها الحياة دون تفهم وتقدير الراعي.. فالله الله في ظفار أيها الرعاة.

عندما يهز النسيم أشجار السغوت (*)- المحملة بالأوراق وتتعانق أعشاب الألي (*)- وتصمت بقية الغابة لتستمع لهذه المعزوفة يأخذك الزمن بعيدًا إلى بقايا الإنسان البريء والطبيعة البكر فقد كانت هناك قرية بسيطة وموقد نار وسور دائري من الأخشاب يحوي القطيع والنساء يلبسن ثوب العفة، والرجال يتأبطون سلاح الكرامة، وينغمس الجميع في طقوس الحصاد منذ بزوغ الخيط الأول للشمس، وهم في حقولهم حتى تغيب، ومعها توقد النار وتحلب المواشي ويجتمع الصغير والكبير في ساحة القرية ليستمعوا لمعزوفات النانا وأنغام الدبرارت التي تمجد الأرض وتعظم معاني الحب وسخاء النفس وسماحتها ما زال المشهد يرقد في مخيلتي ولا يظهر إلا في هذه الأيام من كل عام فزياراتي للأرض لا تنقطع ولا أستريح إلا بالنوم مستلقياً على الأعشاب نصف اليابسة ربما هو الحنين للطفولة، وربما أشياء أخرى لا أستطيع تفسيرها ولكنها تتصارع داخلي كل ربيع.

في هذا الموسم يعوي الذئب من بعيد ليعلمنا أنه ما زال يجوب القمم والوديان، وفي هذا الموسم تشدوا طيور الحجل العربي الأنيقة بأنغام شجية وهي تردد بلغة أهل الريف (أيكترر تو دي)؛ أي: لا ينغص عليَّ أحد متعتي بالربيع. في هذا الموسم ما زلتُ انتظر والدي على طرف القمة حاملًا معه سعنة الجلد المملوءة بالعسل، فيجلس ويخرج لي خلايا الشمع الأبيض المحملة بأجود أنواعه وبعدها نعود معاً للقرية الهادئة تحت غدير الماء. هنا كانت وما زالت للحياة قيمة لا يمكن حسابها بمنطق المكسب والخسارة ولكنها باتت للأسف تفقد جمالها شيئاً فشيئاً بفقدان النبلاء الذين كانوا يجوبونها يوماً. حدثني أحدهم عن شعوره بالوحدة رغم كثرة الناس وازدحام القرى والمدن وتصاعد صياح التلفاز والمركبات وأزيز الكهرباء والطفل الرضيع الذي يبكي من أجل اللعب بالهاتف النقال وقال: أتمنى لكم حياة سعيدة. وفي الختام.. أتمنى من شركتي المروج للألبان والبشائر للحوم أن تستغل مواسم الربيع، فحليبه مخلوط بكل توابل الطبيعة في ظفار، ولحم ماشيته يكاد يكون الأجود عالميًا، لكننا ما زلنا ننتظر ومعنا الرعاة ينتظرون استقبال الشركتين منتجات الجبال ولا ندري متى وكيف سيتم ذلك فالتأخير لم يُعد مبرراً.. حفظ الله بلادي.

*شجرة المشط تغطي 80% من جبال ظفار.

*أطول الأعشاب التي تنمو بعد موسم الخريف.