خذلان وعُزلة!

 

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

أقبلتْ عبر الممرِّ الطويل.. أقبلت على استحياء والحيرة تعلو محيَّاها.. مظهرها ظريف لطيف معًا، هل هي تائهة؟ اتكأت إلى عمودٍ طويلٍ هو أبرز ما يميز أروقة الجامعة؛ التي خُصص الجزء العلوي منها للإناث، أمَّا الذكور ففي المنطقة السُّفلية. وحين ترى أنثى في رواق مُخصَّص للذكور، تأكد أنَّ هذا أول عهد لها بالمكان، وأنها "صعيدية" (*).

اقتربتْ مِنَّي، وبتردُّد ملحوظ: "أختي، وين كلية الزراعة؟". وبفطرتي الفضولية المشاكِسة: "يقولون تروحين هناك وتلفين يسار".

نظرتْ إليَّ باستفهام، وقد شدَّت كلمه يقولون مسامعها: "يقولون؟".

افترت ثناياي عن ابتسامة مترقبة: "أنا صعيدية، بعدني ما أعرف وين، بس أسمعهُم يقولون كذا".

هي ابتسامةٌ، كانت بداية لصداقة بين قلبين غريبين، واليوم أتساءل: هل القلوب هي السبَّاقة في اللقاء قبل الكلمات والحوار؟! يَخَالُ إليَّ أنَّ هناك امتدادًا خفيًّا لخيوط مُذهبة رقيقة، تشدُّ القلوبَ التي تتشابه تجاه بضعها البعض، أو لعلها زَوَارق صغيرة تسبح في فضاء واحد تبحثُ عن مماثل لها.

هل كان قَلبانا كذلك يا لمى؟ هل كان كلٌّ منهما يبحث عن مُلازم له؟

ولكن لِمَ يا لمى تَحطَّم قلبك، ولِمَ رحلتي دون وداع؟ لا، لقد خُطفتِي من الحياة على حين غرة، خطفتك ظُنونُهم البائسة، والأشد بأساً أنَّهم هم من قاسموكِ نفس الدماء، خطفوكِ غِيلة، تباً لهم سحقًا لكبودهم!!!

كانت الجامعة بمثابة مدينة كاملة، مبانيها مُوحَّدة اللون والعلو، شوارعها مُسفلتة، ممرَّاتها مرصوفة، يتوسطها المسجد وتحفُّه المباني الدارسية، وخلفه حديقة تعليمية تُضيِّق ممرَّاته المخصَّصة للمشاة بين الأشجار المرتفعة. وعند كل نوع من الشجر تجد بطاقة تعريفية مثبتة بخشبة رفيعة عند كل نبتة، مكتوبٌ عليها نوع واسم النبتة، أو الاسم العلمي للشجرة.

المكان أشبه بشرنقة عِملاقة، وكنا نحن الطلاب مُقسَّمِين إلى أقسام، هناك الدبابير والنحل، والفراشات، والعصافير.. يتجمَّع كل نوع وصنف في مجموعات، يكون معيارها مسقط الرأس، والمحافظة، والعائلة، يُحبُّ الجميع من يقاربه ويشبه لهجته وكلامه، فهذا أسهل في التعامل وأسلم، إلى أن تتغير الأوضاع تدريجيًّا.

لَمى وأنا قطبان مغناطيسيان مُلتصقان ببعضهما، رغم أن إحدانا تنتمي لأقصى الجنوب، والأخرى لأقصى الشمال.

...

قفزَ الفضولُ من عيني ما إنْ وَطِئت قدمي الجامعة، تحوَّلت نظراتي إلى أرنبٍ يقفزُ من قُبعة ساحر.

...

بركة من العسل عيناك يا لمى، يحرسهما حاجبان متصلان بخفة، ويتقوسان بتناسُق عجيب، أنفٌ دقيقٌ أشم، ووجهك قُرصٌ مُستدير. ترمِشُ عيناك دوماً عند الارتباك، وحالة الترقُّب لا تفارقك؛ فالحذر يُلازمك، يهمُّك ما يقوله الآخرون عنك، تحفظين آراءهم، وتقدسينها، خصوصاً وإنْ كان مصدرُها قريبًا منك. كنتُ أعلم أنَّ قلبك يكتظُّ بالرفض لما يُطلب منك، ونهاية المطاف تنفيذه بصمتٍ مُرهِق.

هل فشلتُ يا لمي في دور الصديقة؟ هل كان يتوجَّب علىَّ مدُّك بالشجاعة أكثر؟

ولكن، أخبريني من هم الأصدقاء حقاً؟! ومن يُحدِّد كيف تنتهي تلك الروابط المثقلة بحماقات السذاجة والغرور؟!

كثيرةٌ هي العلاقة الهشَّة التي رُبطت حول خاصرتنا كزِنَّارٍ قانيٍّ، وكل ما نحتاج إليه هو مقصٌّ حادٌّ لقصِّ ما التفَّ حولي، ولكنَّ التردُّد يُكبِّل يدي عن فعل ذلك. تلك العلاقات التي تُحيطُ خَصري أخالها تذوبُ كأدمعِ الشموع الحارقة، وإذا بها تتجمَّد حولي تطوِّقني ولا تنفكُّ أبدا. زِنَّار العلاقات يُقيِّد مِعصَمي، وحفرُ النسيان تنتشرُ تحت قدمي، تتربَّصُ وتتحيَّن الفرص لتبتلعني.

أشعرُ أحيانا أنَّ زَنَانِيري تتحيَّن الموعد.. إنها بالية، أشعرُ بها، ترتخي من وسطي، ولكني أعيدُ إحكَامَها، أخاف أنْ تستلم وتتمزَّق.

كَم هي خبيثة تلك الزَّنَانير البالية، تبحثُ عن فُرَصَةٍ للرحيل، ولم تتعلم ثقافة الوداع والانسحاب. أتعلمين يا لمى أنه من المفجع أن تلتفت حولك، وتحسَّس خاصرتك، فتجد دماءك تنهمر، وزِنَّارك اختفى دون أن تشعر. أدركتُ بعد بُرهَةٍ أنَّ التعوُّد على الخذلان والانسحاب يُغلِّف القلبَ ويلفه بعناية، ليصبحَ فيما بعد قَابلاً للتجميد الذاتي، فترجح كفة الفراغ والعُزلة.

 

(*) صعيدية: لفظة تُطلق على كل شخص غريب، حضر لمكان هو جديد عليه، ويستكشفه، واندرجتْ الكلمة بين طلاب الجامعة على طلاب السنة الأولى، مع كل الاحترام والتقدير للصعايدة في كل مكان بالعالم.