شاهدٌ من أهلها (6)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

لا تتصادم مبادئ الدبلوماسية العُمانية مع فطرة الحياة الطبيعية، ولا تلغي الآخر بل إن علاقاتها مبنية على حسن الجوار رغم اختلاف المناهج وتنوعها، وما يجمعها بالآخر هو الهدف المتمثل بتحقيق الخير للإنسانية، فثباتها يقوم على سمو النفس والقيم العليا ليعم التفاهم والسلام والاستقرار بين البشر، وهي تساعد في بناء المجتمع الإنساني؛ لأن قوة المبدأ تتجلى في القدرة على الانصهار مع الذات لتحقيق السلام الداخلي وتفسير الظواهر ومحاورتها بلغة العقل، فكل مبدأ يقوم على حرية التفكير ولا يخالف العقل وقواعد المنطق والفطرة السليمة سيقود حتما إلى أن يكون سلاماً قولا وفعلاً.

وهناك بعض الأمور التي ساعدت على الوصول إلى النجاح، تسلحت بالاتزان، والالتزام، والجد في العمل، والاتصالات الجيدة، والإقناع والتأثير، الروح الصادقة، والثبات على المبدأ، فكسبت أفعالها وأقوالها المصداقية، استطاعت بلوغ الأهداف، بصرف النظر عن ماهية النجاح الذي سعت إلى تحقيقه، وقد أثبتت التجارب مدى قوة علاقتها بين احترام ذاتها والنجاح والإنتاجية العالية وتحقيق الإنجازات، فإذا أردنا أن نحكم عليها، علينا أن ننظر إلى المبدأ الثابت الذي لا يجوز أن يتغير، وهو العدل، والعقل، والمساواة، وليس إلى الآليات التي من طبيعتها التغير وفقًا للأوضاع.

وأوجدت النَّهضة العُمانية منذ عام 1970م، فرصة لإعادة ضبط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهي فترة من النشاط الاجتماعي والإصلاح السياسي امتدت على نطاق واسع في جميع أنحاء عُمان، والمُتتبع لديناميات التفاعل الاجتماعي العُماني يستطيع أن يكشف ما طرأ من تغير كمي وكيفي في نمط التفاعل وفي المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية، هذا التغير تناول كل مُقومات الحياة الاجتماعية والنظم والعلاقات الإنسانية، إلا أنه قام على فكر واضح، وعلى حشد قوي، وعلى تخطيط دقيق استند إلى العلم والتكنولوجيا، بمواجهة علمية مستنيرة لما قد يتمخض عن التغير من مُشكلات ومتناقضات ومطالب واحتياجات، وكان تغيرا متوازنا متكاملاً أفضى إلى التطور والنمو والتقدم، بالتوازي مع عملية الضبط والثبات، وتوجيه السلوك بحيث لا ينحرف عن المبدأ حتى يتحقق التوازن من خلال الحوار والإقناع.

خلال الأزمات لم تحتاج الدبلوماسية العُمانية إلى تنفيذ خطة استجابة معدة مسبقاً، وإنما احتاجت إلى انتهاج سلوكيات، وتبني عقليات تمنع من المبالغة في ردة فعلها تجاه تطورات الأمس، وبالتالي تساعد على التطلع إلى المستقبل، وهنا برز فيها جانب آخر مهم خاصة في الأجواء الانفعالية المتوترة التي تشيع إبّان الأزمات، وهو تعزيز الأمان الذي مكنها من مناقشة الأفكار والأسئلة والمخاوف بصراحة دون الخوف من التداعيات، وأتاح لها ذلك الإلمام بالموقف ومعرفة كيفية التعامل معه من خلال مناقشة مفيدة، وتخلت عن الاعتقاد بأن الاستجابة الصادرة من الأطراف ستولد الاستقرار، لم تقف عاجزة أمام جمع المعلومات أو اتخاذ القرارات بسرعة كافية للاستجابة بفاعلية، فاستطاعت بشكل أفضل عن طريق تحديد أولويات واضحة للاستجابة، وتمكين الآخرين من اكتشاف وتنفيذ الحلول التي تخدم تلك الأولويات، عززت الحلول السريعة للمشكلات، ونفذت هذه الحلول في ظل تصاعد التوتر والفوضى، ونظمت شبكة علاقات تتمتع بقدرة كبيرة على التكيف مع الظروف، جمعها تحقيق هدف مشترك هو إقرار السلام.

قد تكون الخبرة هي أثمن صفة يتمتع بها مصلح ذات البين في حالات الطوارئ الروتينية، وفي الأزمات الجديدة واسعة النطاق، وقد مثلت الدبلوماسية العُمانية أهمية قصوى، فكانت استجابتها للأزمات قادرة على توحيد الفرقاء وراء هدف واحد، وعرضت عليهم المشاكل، وطلبت منهم البحث عن حلول لها، وتمتعت بالعديد من الصفات، وعلى رأسها الهدوء المدروس، فهي تمتلك القدرة على الانفصال من وضع محفوف بالمخاطر والتفكير بوضوح في كيفية الخروج منه، وكثيراً ما نجد الهدوء المدروس والتواضع مترسخاً فيها، ولم تكن قليلة الحيلة، وهناك صفة أخرى مهمة وهي التفاؤل الحذِر، أو الثقة المغلفة بالواقعية، فهي لم تبالغ في إظهار الثقة رغم وضوح تعقيد الظروف في وقت مبكر من الأزمة، لكي لا تخاطر بفقدان مصداقيتها، فهي تفضل أن تظهر ثقتها في العثور على طريقة لتخطي موقفها الصعب مع اعترافها في الوقت ذاته بصعوبة الوضع وإدراك أبعاد الأزمة غير المتوقعة، والبدء في التعامل مع الأمر من خلال جمع المزيد من المعلومات، فحين تمر الأزمة يكون عندئذٍ التفاؤل أكثر نفعاً.

ثمة خطأ شائع يرتكبه مصلح ذات البين في أثناء الأزمات، يتمثل في التمهل للحصول على كافة الحقائق قبل تحديد ما يجب فعله؛ لأن الأزمات تنطوي بطبيعتها على العديد من الأمور المجهولة والمفاجآت، وقد لا تتضح له الحقائق خلال الوقت اللازم لاتخاذ القرار، ومع ذلك لم تكتف الدبلوماسية العُمانية باتباع الحدس، ففضَّلت التعامل مع التباس الرؤية والشعور بعدم التعرض لموقف مشابه من خلال جمع المعلومات باستمرار في ظل تطور الأزمة، ومراقبة مدى نجاح جهودها في التعامل مع الأزمة، ومن الناحية العملية، فهذا يعني أنها قامت بتقييم الموقف من عدة جوانب، وتوقعت ما قد يحدث بعد ذلك، ثم اتخذت اللازم، مع الاستمرار في دورة التمهل المؤقت ثم التقييم ثم التوقع، فساعدها ذلك على الحفاظ على حالة من الهدوء المدروس وتجنب المبالغة في ردة الفعل تجاه المعلومات الجديدة فور ورودها، وقد تطلبت بعض اللحظات في أثناء الأزمة اتخاذ إجراءات فورية، دون وجود وقت للتقييم أو التوقع، لكنها وجدت في نهاية المطاف أوقاتاً للتوقف والتفكير في المستقبل قبل اتخاذ المزيد من الخطوات.

من المهم أن أذكر أن الدبلوماسية العُمانية لم تُظهر التعاطف فحسب، بل قبلت تعاطف الآخرين والانتباه لهم، فمع تراكم الإجهاد والتعب والتباس الأمور في أثناء الأزمة، أظهرت التواصل المتكرر والمدروس لمتابعة الموقف، مما ساعد على طمأنة الأطراف المعنية بأنهم قادرون على مواجهة الأزمة، كما أبدت اهتماماً خاصاً بملاحظة ومعالجة مخاوف الجميع والرد على أسئلتهم ورعاية مصالحهم.

لأول مرة أكتب شهادة ما، لكن انتظاري الدائم لا شيء، ونظرتي المتفحصة لدبلوماسية السلام جعلاني أخوض مغامرة الخوض في شهادتي لأول مرة، ولأن الخلفية الدبلوماسية للمغامرة تخلق لها أبعاداً أخرى تجعلها أكثر رحابة واتساعاً وإثارة، ولأن الكتابة عن الدبلوماسية العُمانية تماماً هي بمثابة وسام فخر، لهذا لم يكن هناك أفضل من مبدأ السلام وثباته، مصحوبا بهتافات الآمنين وتصفيقهم لها، لأسترسل في كتابة هذه الشهادة، معتبراً أنهم يصفقون لي أنا تقديرا لجهدي، وهل هناك جهد أكثر من الخوض في سرد شهادتي؟ وهل هناك شهادة أكثر من الوقوف أمام القارئ الكريم دون معرفة الشكل النهائي لما يمكن لتلك الشهادة أن تكتنفه من كلمات تحمل بداخلها أفكاراً قد يقال عنها مدحاً وإطراء؟

ألم تبدأ كل النجاحات لعُمان في جميع العصور بالثبات على المبدأ؟ موضوعة أمام مسيرة عطرة، ليمنحها كلمات أو معادلات أو نظريات سوف تبني بها السلام بسببها في دبلوماسيتها التي أسست بها الدولة العصرية وفق نمو معرفي تراكمي، اكتسبه الشعب العُماني على مدى طويل، بموروث ثقافي على مراحل كثيرة من الزمن تنتقل من جيل سابق إلى جيل حالي، فهناك علاقة وطيدة بين الحضارة العُمانية الإنسانية والثقافة، والأفكار السياسية منذ قديم الأزل، وهذا ينعكس على القدرة على تغيير أية فكرة سياسية عبر العصور، والحفاظ على ترابط المجتمع الذي سعى لتكوين حضارة دون أن يكون هناك أي تغيير للفكر، بل حافظت عليه وساهمت في تطويره ونموه باستمرار كركن أساسي، لأنها تشمل العقيدة والقيم الأخلاقية والتقاليد والعادات والأعراف واللغة، كجوانب مادية تساهم في بناء المجتمع مثل المباني القديمة والمنشآت التجارية والصناعية، فميزت الشعب العُماني عن غيره من الشعوب الأخرى، وهي التي وضعته في مكانة عالية بين الشعوب، وكلما حافظ عليها كلما جعل لها قيمة، لأن أي تغير يحدث يكون في ضوء وجود عناصر من العوامل الفكرية، والثقافية، والبيئية والجغرافية وغيرها، علاوة على السعي لمعرفة أنماط التغير الذي حدث في المجتمعات البشرية، وما هي معدلات التغير ومستوياتها من حيث واقعها ومعالجتها، ودراسة قضايا ومشكلات ظواهر الحياة الاجتماعية التي نعيشها في الوقت الراهن.

إن السلام ليس حكراً على الممتلكات المادية المحسوسة والملموسة فقط، وإنما يتعداها ليشمل الأفكار والتصورات الخاصة عن الحياة، لهذا ينبغي إعادة الحسابات في بعض التصورات، وينبغي معرفة أن الأشياء في العالم نسبية، فما يسعدنا متغير على حسب تغير الزمان والمكان والموقف والحالة، والأمر نفسه بالنسبة لما يؤلم، وبناءً عليه إذا ضبطنا أنفسنا ذات يوم متلبسين بمحاولة قياس واقعنا، بمعايير العنف والشقاق والمحن، فنحن لسنا على الثبات بعد ولن نعيش السلام المنشود، فالطريق المختصر للسلام، هو التمسك بمبادئ السلام، بنسيان الكراهية والعنصرية والشهوات، ومرارة احتساء العقبات والصعاب، إلا أن ما لا يمكن نسيانه أبداً تلك اللحظة، التي رفعنا فيها راية التحرر من التصورات المغلوطة على قمة جبل الأرواح، لحظة ذوبان الكل في الجزء والجزء في الكل، لحظة التحام أجزاء الأرواح الممزقة والموزعة على تفاصيل الحياه العنيفة، لحظة الوصول إلى السلام.

***********

يغوص سعادة الدكتور قاسم بن محمد بن سالم الصالحي سفير السلطنة لدى جمهورية تركيا الصديقة، في أعماق الدبلوماسية العُمانية، في كتابه الجديد "شاهد من أهلها"، والذي تنشره "الرؤية" على حلقات في هذه المساحة.

تعليق عبر الفيس بوك