إلى طفول.. خطاب من الدنيا إلى الآخرة!

علي بن سالم كفيتان   

بعد أن كتبت مقالي اليتيم عنكِ قامت الدنيا ولم تقعد، فتيقنتُ أن هناك سحرًا نادرًا وقوى خفية تكتنف اسمك يا طفول، سأمنح نفسي تذكرة العبور الوحيدة إلى عالمك البرزخي سيدتي، فلا زالت آخر الكلمات التي وصلت إلى مسمعي عبر الهاتف النقال تجلجل في أعماق وجداني لقد قلت لي: "هلا بو سعيد.. أنا بخير"، واختفى الصوت ومضى بلا عودة.

كنتُ أمني النفس برؤيتك مجددًا في عالمنا، لكنك أثرت الرحيل عنا مبكراً كان علي أن أتقبل هذا الخبر الصادم رغم كل التطمينات التي كانت تأتيني عبر الأثير من أخر مقام لك في الدنيا ...وصلتني ذات مساء رسالة نصية تقول: "طفول باتت على الأجهزة نطلب منكم الدعاء لها"، ففرت دمعة دون سابق إنذار وخضبت لحيتي. أغلقت باب الغرفة على نفسي وأغمضت عيني، فعاد الشريط سريعا يا طفول، رأيتُ محياكِ السمح ووجهك البشوش، ونظرتك الخجولة وتبادر إلى مسمعي صوتك الهادئ الرزين، وتجليات التضحيات التي ارتسمت على وجهك الشريف خلف كل هذا الحضور الصامت الجميل نبت رجال ونساء وحفدة، فغادرتِ بسكون عجيب ودون استئذان مُسبق للعالم الآخر فهل ستصلك رسالتي يا طفول؟

لملمتُ نفسي سريعا لأحضر طقوس الرحيل، فوجدت المقبرة خالية لقد رحل الجميع، وبقي شاهد قبرك المربوط ببقايا شريط أصفر ربما ليهتدي إليه أبناؤك أو إخوتك إذا ما قرروا يوماً زيارتك فزحمة القبور باتت مخيفة، ولم يعد الواحد يستطيع التفريق بين سكان هذه البقاع. ورغم كل شيء وضعتُ عصاي جانباً، وصليت عليك وحيدًا، فشدني الإحساس وناوشتني الهواجس الربانية، وخُيل لي أن جميع الراقدين وقفوا، واصطفوا خلفي للصلاة على روحك الطاهرة النقية، وبعد السلام والجلوس إلى جوارك الشريف رأيت قادماً من بعيد يلفه السواد يتقدم بهدوء، فتبينت أنه ضيف آخر غيري لمحت المصحف في يدها، وقفت بعيداً حتى أفرغ أنا من جواري هذا، فأخذت عصاي وذهبت وقبل الخروج من السور لمحتها تجلس وحيدة معك كقطعة حجر لا تريد أن تتزحزح فما أعظم الوفاء للأخ.         

يظل الاسم أسري يا طفول فأنت من يجلب الرخاء في سنين القحط حيث يتفاءل بك الرعاة كاسم جميل لبناتهم... هذه المرة الصوت قادم من فضاء آخر لطفول أخرى، ولكنه ذهب لنفس المصير ولم أحضر أنا الوداع الأخير، بل شاهدت مقاطع من كفاحك المرير لتثبيت كل أصيل، وحفظ كل زائل فذهبت أنت وبقي إرثك الذي كافحت من أجله لا أدري إن كان يحق لك التكريم الدنيوي وأنت قد رحلت إلى عالم آخر، أم لا وهل ستصلك هذه الرسالة التي تأخرت كثيراً كم آلمتني بحت صوتك، ونظرت عينيك من خلف البرقع، وأنت تقولين لقد دفعت كل ما عندي لحفظ تراث بلادي في بيتي، وقد نتساءل لماذا تجاوز الجميع طفول؟ ولم يدرجها ضمن قائمة النساء العُمانيات المكافحات قبل رحيلها رغم أن رحلتك في الدنيا كانت مفعمة بالعطاء الصامت للوطن ... ويقودنا هذا لتساؤل آخر يا طفول: من الذي يقدر الوطنية ويقيمها ويكتب أسماء المبدعين الذين يجب تكريمهم؟ لا أدري ولكنني أكاد أجزم أنهم لم يوفقوا عندما تجاهلوا كل ما تصنعين.          

أين ستذهب مقتنياتك يا طفول؟ ومن الذي ورثها؟ وهل غرست طفول أخرى في الدار؟ كلها أسئلة مشروعة يجب أن نسألها، وننتظر الإجابة عنها من جهات معنية بالثقافة والتراث والسياحة في بلادنا العزيزة، أنا لم أعرفك سيدتي ولكنك امتلكت جواز العبور الأبدي لكل من عرف طفول بامخالف وزار متحفها في ولاية طاقة، فكانت إحدى المحطات التي لا يمكن تجاوزها عند الرحيل إلى الشرق، فكم ضيف حل في متحفك، وكم قناة تلفزيونية حضرت لنقل ما تقومين به من جهد عظيم، وجميعهم وعدوا بدعمك لكنهم أخذوا مبتغاهم ومضوا في حال سبيلهم.

قبل الختام يسكنني حزن وفرح يا طفول حزن الفراق وفرح الخلود، فكل سيدة تحمل اسمك لا يهمها تكريم الدنيويين، فقد وصلت رسالة طفول الأولى وطفول الثانية، ولا زال هناك قائمة من المبدعات في هذا الوطن ممن يعددن العدة للعمل بصمت، وقيادة الضمير الإنساني الحي نحو الإبداع غير المشروط بوسام رفيع أو حفل تكريم تجاوزك يوما.

أعتذر عن ذكر اسم طفول الأولى ................

رحم الله طفول ... وحفظ الله بلادي.