العقلانية.. والتاريخ!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"أعمق موضوع في تاريخ الإنسان هو صراع الشك واليقين".. جوته.

------

أتساءل أحيانًا: هل التاريخ يكتب بعقلانية أم بعاطفة، أو بانتقائية بحسب نوازع النفس البشرية؟

لأركز على العقلانية وحتى لا تتصور أني دخلت باب في الفلسفة، أنبه أني أتحدث عن العقلانية بحسب المعنى العامي العادي، وسأربطُ المعقولية مع العقلانية، وأظنهما كمعنى مترابطين، من سيفكر بعقلانية ستكون المعقولية هي أولى محطاته، فهل هناك شك في ذلك؟

هناك المعقول والمنطقي ذو الجوهر المناسب للعقل، وهناك من يعتبر في خانة اللامعقول، أو ليس من صنع البشر، وهنا ينشأ الخلاف: هل هو من صنع الطبيعة؟ إنها أقدار الله، وعندما نتحدث في الغيبيات، فإننا ندخل عصر اللامعقول والمعجزة والإعجاز الإلهي، وهذا فوق قدرة العلم البشري، قال تعالى: "وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً" أي محفُوظاً من أن يقع وَيَسقُط عَلَى الأَرض، ودليله قوله تعالى: "وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" (الحج: 65). وقِيل: مَحفُوظا بالنُّجُوم من الشَّيَاطين، قَالَه الْفَرَّاء. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ" (الحجر: 17). وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الْهَدْمِ وَالنَّقْضِ، وَعَنْ أَنْ يَبْلُغَهُ أَحَدٌ بِحِيلَةٍ. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِمَادٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. (1)

كتبتُ مقالات كثيرة عن التاريخ وحوله ومعه وضده، و غيري الكثير ممن كتب عن هذا العلم الإنساني الهام، كتب التاريخ كانت وماتزال ترفل وتملأ أرفف المكتبات، والرسائل العلمية عن التاريخ ماتزال تنسج خيوطا من المعاني الجديدة والتحليلات التي لم يسبق أن تطرق لها أحد، ومايزال وسيزال التاريخ فاتحا أبوابه لكل حدث وبحث وباحث، مادمنا أحياء فالتاريخ حي.

صحيح مادمنا أحياء فالتاريخ حي، إنما هناك من الأموات ضميرياً من يكتبون التاريخ، ومادموا أموات فالحي ليس بأخ الميت، التاريخ الذي يكتبه أموات الضمير لاحاجة له، ولا أعلم لماذا يتقبله بعض المفكرين أو المؤرخين؟ كتب معنونة بأنها تاريخية لكنها لاتعدو أكثر من حملة إعلامية للإشادة والمدح، أو رواية أدبية، التأليف فيها أكثر من الحقيقة، ثم يبرز من يرفع الصوت ويؤيد ذلك بسبب: البهارات التي تزيد الطعم لذة!

لا يمكن أن تتداخل البهارات أو التوابل مع التاريخ الحقيقي، أذكر الحدث كما هو، أو لا تذكر وأصمت، فالصمت حكمة، لكن لا تكتب كذبًا أو عن توقعات شخصية، وتدعي مع ابتسامة باهتة بأن ما كتبته بهارات لضرورة اكتمال الفكرة، والعذر غالبًا أن الفكرة الأهم وصلت، إنما التلاعب اللفظي في العبارات والزيادة والنقصان كان في التفاصيل الطويلة!

سؤال: حضرتك تكتب عن حدث تاريخي أم عن مسرحية مشوقة؟!

نأخذ ونعطي وقد نؤيد ونرفض بأمور التحليل والنقاش حول الحدث، إنما الحدث ذاته يجب أن يكون قد كتب بمصداقية لا تحتوي على بهارات لإضفاء التشويق، اكتبْ الحدث كما هو؛ لأن المعلومة ملك للتاريخ وللجميع، لكن التحليل لك مطلق الحرية فيه، تجول مع التحليلات ونظرياتها كما شئت وأدخل الفلسفة مع السياسة وأجمع نظريات الإجتماع مع مبادئ الاقتصاد لامشكلة، قد تكون الفكرة ذات وجاهة، لم لا، لكن لاتتصرف بالحدث -ذات الحدث - وفق إجتهاداتك،هنا أنت ترتكب تزوير، وهذا غير مقبول!

سأحدثك عن نموذج معروف وشهير لأهل علم التاريخ وهو المؤرخ الطبري وكتابه البارز تاريخ الأمم والملوك والذي يعرف بتاريخ الطبري؛ إذ قال عنه المفكر المغربي علي أومليل (2) في كتابه الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون عن هذا الأمر، إذا فحصنا الأرضية التي شيّد عليها الطبري تاريخه نجد أنفسنا بصدد تاريخ صيغ على أرضية الخبر، فالأخبار فيه قد رتبت حسب أحداث، وكل حدث مدعم بسند أو عدة أسانيد. وهنا بالذات حقق الطبري طفرة مهمة بتجاوز تاريخ الخبر.

 

أي كما نفهم أن التاريخ هو الحدث أو الخبر وفق أسانيد مدعمة، وليس التدعيم بوجهة نظر أو رأي فهذه مكانها في خاصية التحليل والاستقراء للحدث وليس للنقل، التاريخ أمانة في أعناق الجميع وهو الماضي المتكأ عليه حاضرا والمستشرف للمستقبل، لذلك تنبع أهمية التأريخ الحقيقي ولو على أي حساب، لأجل الحقيقة على المؤرخ أن يرمي كل الحسابات وراء ظهره.

 

----------------------

  1. الجامع لأحكام القرآن- تفسير القرطبي المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية- القاهرة الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964م.
  2. علي أومليل: مواليد 25 ديسمبر 1940م فيلسوف ومفكر وناشط حقوقي ودبلوماسي وسياسي مغربي.