أنيسة الهوتية
حُلمٌ أم رؤيا، الحالِم أو الرائي هو مَن يُحدِد مِن خِلال تأثرهِ بِما رآه. هكذا وَصفَ وَرَدَّ عَمي نورالدين باللغة الفارسية على المُتسائل، ولِصغر سِني فَهِمتُ قَولهُ، لَكِنني لم أفهم مَعناه، إلا بَعدما كبرت، وأصبح لي فضولٌ أكبر في عالم التفاسير!
وعِلم تفسير الرؤى علم شرعي مُتكامل في الإسلام قواعده مُستنبطة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والأغلب أنه هبةً أو مَلَكة يمتلكها البعض، ثُم تُصقَل لَهُ أو يصقِلها صاحبها بنفسه، لكنه عِلمٌ غير مُعترفٍ بهِ أكاديمياً، غير أن عدَم الاعتراف الأكاديمي لا يُلغيهِ من أصوله وَوُجودهِ الواقعي.
فِي إحدى سَفراتي إلى تركيا سَمعتُ عن شيخٍ معروفٌ عَنه بأنه مُفسِر أحلام -رحمه الله- قد توفاه الله عن عُمرٍ يفوق المئة، فطلبتُ أن أزورهُ قبل ذهابي إلى المطار إن كانَ مُمكِناً، وأن أقضيِ معهُ بضع ساعاتٍ حتى يأتي أوان السفر وأُغير خُطة التسوق المرسومة لي، والشخص الذي أخبرني عنه كان هو السائق الخاص لي في فترة إقامتي في إسطنبول لمهمة عمل وكانَ اسمهُ إبراهيم من أُصولٍ كُردية وأن الشيخ كذلك اسمه إبراهيم، وأنه يكونُ جَدُه من أُمه.
ولأجل أن نزور الشيخ كان عليّ أن أغير تذكرتي من مطار أتاتورك إلى مطار صبيحة؛ لأنَّ كوخ الشيخ يقع في الضواحي، وفعلاً فعلتُ ذلك وذهبنا لنراه وكان شوقي يسبقني لرؤيتهِ ومبادلة الحديثِ معه، وكأنني ذاهبةً لأرى شيئاً أو شخصاً يخصني من عالمٍ آخر. وفِعلاً عِندما رأيتهُ لوهلةٍ تذكرتُ أبي وجَدي وجدتي وشعرتُ براحةٍ ورضا لم أشعر بهما منذ زمانٍ طويل، وكانَ جالساً على كرسيه، فَوَقف ليُرحب بي فهمَمتُ لمصافحتهِ وقبلت يدهُ ورأسه، وقال لي: لستُ ذا شأنٍ لتُقبلين رأسي يا فتاة. فرددتُ عليه: بل أنتَ ذو شأنٍ عظيم وَتعَاليمُنا تَفرض علينا أن نُقدِر الكبار ونوقرهم. ومضت السِبعُ ساعاتٍ وثلث كثوانٍ في حضرة المُعلم إبراهيم، وعِند مُغادرتي إلى المطار أخبرته بأنني سأعودُ لزيارتهِ مرةً أُخرى؛ لأنني لم أشبع من حكاياته وعُلومه، ولَم أغرف من هذا البحر سوى قطراتٍ لا تَروي ظمأَ العَطشان. فقال لي: ستأتين بالتأكيد، لَكِن لَن أكونَ موجودًا، وأنكِ أتيتِ مُتأخرةً كثيراً يا أنيسة ابنة إبراهيم! فإنني في انتظارِك منذ خمسةٍ وثلاثينَ عاماً. فوقفتُ مكاني مُتسمرةً وأنا أنظرُ إلى عينيهِ لأنني الآن في عُمر الخامسةِ والثلاثين! فابتسمَ وقَال: لقد حلمتُ بِكِ يَومَ وِلادتكِ كحمامةٍ بيضاء، وكان تفسيرُ حُلمي بأنَّ هناك فتاةٌ وُلدِت في عالمٍ غير عالمي ستأتيني مِن عالمِها لِتُبشرني بجَنةٍ كَلونِ خِمارها، وأن اسمُ أبيها الرسمي كاسمي واسمهُ العَامي كاسمِ جَدي. فسألتهُ: هل اسمُ جَدكِ مُراد؟ قال: نعم، مُراد بيك، وأنتِ تَرتدين خِماراً بَلون الجنَّة. وكان حجابي لونهُ أخضر، فدَمعت عَيناي وأردتُ أن أعانقه لَولا الحياء الذي أمسكني وأنهُ ليسَ بمحرمٍ لي. فتقدمَ نحوي وأمسكَ بيدي وقال: يَوماً ما سَترينَ مشاعلَ مُعلقةً علَى جدرانَ رومانية في مضامير فارغة، فلا تخافي ولا تحزني، فإنهُ ليلٌ مُظلِم ستشرق بعدهُ شمسُ العِيد. وقرأ بعض الآياتِ وتَمتَم ببعض الكلمات ونفخهم عليّ. وقال: الوداع ولقاؤنا في الجنة بإذن الله تعالى.
طوال الطريق إلى المطار والدمعُ لا يتوقف عن الانهمار من عيني، وكانَ أمراً غريباً؛ لأنني عادةً لا أبكي. وعلى سؤالِ إبراهيم المُتكرر لي: هل أنتِ بخير؟ لم أستطع أن أرُد عليه بأن جِدك سيُغادر الدنيا قريبًا.
وَبعد خمسةِ أعوامٍ من ذلك الحدث فعلاً حَلِمتُ بالمشاعل المُعلقة على الجدار الروماني في لَيلٍ مُظلمٍ كئيب. والآن أنتظرُ إشراقةَ شَمسِ العيد بِصَبرٍ شَديد.