الشيخ سالم العبري.. القابض على جمر العُروبة واللغة

ناصر أبو عون

في مُفتتحِ عقْدِ السبعينيات من القرنِ الفائتِ انبلجَ فجرُ النهضةِ في عُمان، فانشرحَ الليلُ الساكنُ خلفَ جبالِ (الحَجَرِ الشَّرقي)، فأشرقت شمسُ الحقيقةِ، وشقشقتِ طيورُ (القطا المتوّج) على سواري شجر (العلعلان)؛ فبددتْ ظلامَ الصمتِ المُطبقِ في سُهولِ وبِطاحِ (الحَمراءِ)، وأزقّة (الحارة القديمة)، ولمّا انقشعت طَخية الجهلِ، وكبّرتْ مآذن (نزوى)، وترددت أصداؤها بين حيطان بيت (المُغري)، الضاربِ بجذوره في بطونِ وأصلابِ قبائلِ العربِ شرفًا، وأوثقها بين الأقارب والأصهار نسبًا، و أَوْتَدها مكانةً وفراسةً وحِكمةً وعِلمًا، سرتْ في عروقِ الفتى النابهِ سالم بن محمد العبريّ حِميةُ المجد (الأزديّ)، الذي ورث سِيماهُ من ذرا الكبرياء (اليمنيّ)، وجرت في شرايينه فصاحةُ اللسانِ (القحطانيّ)، فامتطى صهوةَ العروبةِ مفاخرًا – قولا وعملا - بجدّه "الهمام عَبرة بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر وهو هود عليه السلام.

من (بيتِ المُغري)، ومِن مستقر العلمِ والشرفِ والفخار، اشرأبت أسارير الشاب سالم العبري المشغوفِ بالقوميّة العربيةِ، فتخفّفَ من أوزارِ القُطْريّة والانعزاليةِ المقيتة، وقَشَعَ أغباشَ الوَهَل وعقد العزم على السياحةِ والسفرِ طلبًا للعلمِ فتعلّقَ بأستار "النهضة المباركة" وتشرّبت نفسُه رُوحَ وصولةَ الزعيمِ خالدِ الذِّكرِ جمالِ عبد الناصر، فَذمَّرَ حِزبَه وعشيرتَه على اللحاقِ بالرَّكبِ، وقَمَشَ مَا استطاع إليهِ سبيلًا من المؤونة، وشدَّ الرِّحالَ بِصُحبة ثُلة منْ أبناءِ عُمانَ الكرامِ البَرَرَةِ رَعُفَ بِهم الزمانُ إلى (مصرَ المحروسةِ)، جَالسًا تحتَ قِبَابِ علومِها، ومُطيلا المكوثَ المُتَأملِ تحتَ أفياءِ عُلمائها، ومصيخا السمع في تَدَبُرٍ لأفكارِ أعلامِها.

وبعد طولِ مُقامٍ بالفتى الذي عَضَّ على ناجز اللغةِ، فلمْ يَنْعَجِمِ اللسان، ولمْ يزغِ البصرِ، وفي مَحاجرِ العينين لمْ تَدُرِ المُقلتان في حضرةِ الغَواني الحِسَان، فنَجَا من أشراكِ الغُربة والاغترابِ، ودَبَّ ودَرَجَ على الاقتداءِ ببصيرةِ الأجدادِ وسَدَلَ ثوبَ الفَضيلة، وجَذَمَ رُسْلَ الرَّذيلة، ولم يقطعْ أرشيةِ الفضيلة، وتشبّثَ بالنَّجَارِ العُمانيّةِ الأصيلة، فتَحَصَّنَ من كُلِ خَطَلٍ، وأحيا في ليلِ القاهرةِ الصَّاخبِ مَا انْدَرَسَ من الأصولِ (النّزوية) الأثيلة، ولم ينجرّ إلى مراتع الشيطان ومواطيء الزَّلل، ولم يتقحّمْ مواضعَ الغواية، ولم ينتكث عليه فتلُه، ولم يَكبُ في مناهل القاهرةِ جوادُه، ولمْ يَأْلَه إلى مفاتنِ شهواتِه، فاستبقَ الباب إلى العُلا، ولم تَقُدَّ قَميصَه بائعاتُ الهَوى، وعلى طريقِ العِلمِ استوى.

كان الشيخُ سالمٌ العَبريّ في نهار قاهرةِ المُعزِّ سَوَّاحًا بين أعمدةِ (ماسبيرو)، وطوافًا داخلَ أروقةِ إذاعة (صوتِ العَرب)، وفي الليل المُدلهم كوكبًا سيَّارا يقتبس من (صالوناتِ الأدب) نورا يستضيء به، وساعيًا بين (بلاطِ صاحبةِ الجلالةِ)؛ وجوّالا في (شارعِ الصِّحَافة)؛ فشَفَى نَهمه، وأرْوَى ظَمَأَه، وقَضَى وَتَرَه، وتَشَطَّرَ ضِرْعَيها؛ مُحْتَلِبًا مُصاصَ (العلم والأدب)، فأنجز وَعْدَه، وحقّقَ مَآربَه. ولمّا آبَ الفتى إلى (مسقط العامرة)، انْضوى تحتَ لواءِ باني عُمانَ وباعثِ نَهضتها المباركة؛ السلطان قابوس – طيَّبَ الله ثراه وذكراه - فشمّرَ معَ رِفَاق دربه عن ساعدِ العطاء، وشَدّوا مِئزرَ الفِداء، فأحيوا نهارَهم بالعملِ، وأقاموا ليلَهم بالتفكير والتخطيط يحدوهم الأمل، أن تعود عُمان إلى سيرتها الأولى لؤلوةَ العلْم في جبينِ التاريخِ، وجوهرةَ المجدِ فوقَ هاماتِ الشّرفِ، ومحلَ القُطبِ من الرَّحى بين الأمم.