أمُّ مِلدَمٍ

 

علي بن حمد المسلمي

 

"وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً// فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظّلامِ"..

من مُنطلق أبيات المتنبي عن الحمى في البيت السابع عشر من قصيدته وما تسببه من مُعاناة، وما عاناه هو شخصياً منها وزيارتها بدون استئذان ويشتد إيلامها في الظلام وتضرب العظام باللحم من شدتها تكاد أن تبكي الرجال.

الحمى من فيح جهنم، أستأذنت الحمى رسول الله فقال: مَنْ أنْتِ؟ قالتْ: "أنا أمُّ مِلْدَمٍ". وهي كنية للحمى، ألْدَمَتْ عليه الحُمَّى: دامت.

جعل الله البلايا التي تصيب الإنسان من أهل الإيمان طهوراً لهم وتمحيصاً لذنوبهم وأهل المعصية عذابا، فهاهم صحابة رسول الله- عليه أفضل الصلاة والسلام- عندما خيرهم بين أمرين، اختاروا بقاء الحمى فيهم تطهيراً لهم "وإنْ شِئتُم كانت طَهورًا".

أمرنا الله بالاستشفاء من الحمى، والمبادرة إلى أقرب مشفى أو مستوصف لتدراك الأمر خوفاً من المضاعفات التي تحصل لاسيما ولله الحمد أماكن الاستطباب متوفرة في ربوع بلدنا عمان.

إن تناول الوصفات الطبية أمر محمود وفق تعليمات الطبيب وإرشاداته حتى يستفيد الإنسان من العلاج وينعم بالصحة والعافية "ما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل له شفاءً علمَهُ من علمه وجهلَه من جهِله".

والاستفادة من الدروس والعبر التي تخلفها أمُّ مِلدَمِ لحري بنا، أن نذكر بعضاً من فضائلها، إنها تذكر الإنسان بنعم الله عليه وما كان يرفل به من خيرات ونعم يتقلب فيها صباح مساء وتذكره بضعفه مهما أوتي من قوة "وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفا". وتجعله يستشعر ما يشعر به المرضى في المستشفيات ومعاناة كبار السن والذين يعانون من أمراض مزمنة وما يكابدونه من آلام.

إن الحمى تلفت انتباه الإنسان إلى أن الدنيا ليست دار بقاء فيروسات بسيطة تصيب الجسد تسبب لك الحمى تقلب حياتك رأساً على عقب.

"أمُّ مِلدَمٍ" تنبهك بالسؤال عن إخوانك وأصدقائك حتى ولو برسائل صباحية لتطمئن على أحوالهم وتدفعك إلى البر والإحسان وتلمس حاجات المحتاجين والفقراء والأيتام والأرامل وتعلمك الصبر من خلال الاقتداء بالصالحين كقصة سيدنا أيوب عليه السلام وتمحص النفس من أدران الذنوب.

وكما للحمى فوائد، فإن لها مثالب تجعلك طريح الفراش تعتصر الألم تتقلب من وطأتها من شدة الألم يمنة ويسرى تتمنى لو أن أمك لم تلدك وتعيش بمعزل عن الآخرين وتنقطع عن العالم الخارجي، وتجبرك على التعامل بحذر مع أسرتك وتتعطل أعمالك وتنعدم شهيتك عن الطعام والاستمتاع بالوقت يكاد يكون معدومًا وهنا يظهر معدن الإنسان من الخل الوفي ومن الصاحب النقي إذا انقطعت سأل عنك وإذا غبت بحث عنك.

في ظل وطأة الحمى لا ينسى الإنسان أصحاب المعاطف البيضاء من أطباء وممرضين وفنيين وهم يبذلون ما بوسعهم من أجل راحة المريض والابتسامة تعلو محياهم ويقدمون له العون والمساعدة عند لحظة دخول المشفى وحتى مغادرته مقرونة بالدعاء بالشفاء.. فطوبى لهم وصل كلال ليلهم بكلال نهارهم، فجزاهم الله إحسانا وسدد على طريق الخير خطاهم لينعم أبناء الوطن بالصحة والعافية.

تعليق عبر الفيس بوك