"القطيع الضال"

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

"القطيع الضال".. ذاك التعبير الذي استخدمه الفيلسوف والمُفكِّر الأمريكي نَعوم تشومسكي، في كتابه "السيطرة على الإعلام"، يستدعي التوقُّف أمامه ليس ببعض كلماتٍ يحويها مقال، وإنَّما بدراسات مُستفيضة مُتأمِّلة، خصوصاً وأنها ليست المرة الأولى التي يصدُر فيها تعبيرٌ كهذا من مفكر بهذا الحجم؛ فقد سبقه الأمريكي والتر لييمان مستخدمًا تعبيرًا شبيهاً "القطيع الحائر" فيما اسمَاه بفن ثورة الديمقراطية.

فالثورة الديمقراطية في رأي كليهما تحتاج إلى تطويع وسائل الإعلام لصُنع رأي عام سلبي/ مطَّاطي، يُوافق على أمور لا يرغبها بالأساس؛ وذلك باستخدام الوسائل الدعائية، تمامًا كما حدث في عهد إدارة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون إبان الحرب العالمية الثانية؛ حينما أُنشئت لجنة "كريل" للدعاية الحكومية، والتي نجحت خلال 6 أشهر فقط في التأثير في الرأي العام وبثَّت الرعب والهستيريا في المُواطنين المسالمين، الذين تحوَّلوا إلى مُواطنين يتملكهم التعطُّش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وخوض الحرب من أجل إنقاذ العالم.

التكنيك ذاته تمَّ توظيفه ضد "الذعر من الأحمر" ذاك المصطلح الذي كان يُطلق على "الشيوعية"؛ حيث شرَّعت هذه الحروب غير الأخلاقية، النوافذ أمام اتساع قاعدة التزييف والتدليس؛ وأذكر مثالا لذلك: موضوع الأطفال البلجيكيين ذوي الأذرع الممزقة، والمذابح الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وأصل هذه الفبركات الدعائية كانت وزارة الدعاية البريطانية.

عودة إلى واقعنا اليوم.. فقد أثار مُؤخرا الصحفي البريطاني مارتن روزنباوم، في مقاله المنشور على موقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بعنوان "كيف موَّلت المملكة المتحدة سرًّا وكالة رويترز"، العديد من علامات الاستفهام من نوعية: متى وكيف تسلَّلت وتغلغلت أذرع الإعلام الغربي إلى عالمنا العربي؟!!! وحسبما كشفتْ عنه الوثائق التي صَدرت عن وزارة الخارجية البريطانية، فقد أقنعت حكومة المملكة المتحدة في أواخر الستينيات وكالة الأنباء البريطانية "رويترز" بإنشاء خدمة تغطية صحفية في الشرق الأوسط، وتمويلها خِلسَة عبر "بي بي سي".

وفي رأيي أنَّ مرد ذلك، قلق الدبلوماسيين البريطانيين في الشرق الأوسط بشأن قنوات النفوذ التي يتم ملؤها من قبل "وكالات معادية أو شبه معادية"، مثل وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية المصرية، ووكالة تاس الروسية (السوفيتية في ذلك الوقت)، وحتى وكالة الأنباء الفرنسية.

وبالنظر إلى وضعنا الحالي، ومع ما نُشاهده من تضخم في عدد الوسائل الإعلامية -المرئي منها والمقروء- يحق للشك أن يتسلل إلى نفوسنا، صادحاً بسؤاله عن: هل كلها تخدم الأهداف الرسالية للإعلام المعني ببناء رأي عام قوي؟ أم أنها حلقة في سلسة إضعاف كل ما هو قوي إمعانًا في تهميش هذه الجغرافية من خريطة عالمنا اليوم؟

ومردُّ مشروعية هذه الشكوك والتساؤلات، ما نراه من إعلام دول يصب كل اهتماماته ويطوِّع كل قدراته مخصصاً موارده وتقنياته لتطويق الرأي العام وحصره في بوتقة القضايا التافهة وسفاسف الأمور، والابتعاد عن القضايا المصيرية الحيوية؛ فيَسْهُل خلق "الطُغم الضالة" أو "القُطعان الضالة".

... إنني لا أؤمن بنظرية المؤامرة، ولكنَّ التوجُّه العام لتشكيل مفهوم جديد لقوى التوازن، وإيجاد معادلات جديدة للربح والخسارة، والتغلغل والسيطرة، بتحويلها من ساحة الحروب والقوى العسكرية المدججة بالسلاح، لاستبدالها بأذرع تنخر في الأساسات وتطوِّع الرأي العام تحت زيف السلطات الديمقراطية والحرية الإعلامية المشوَّهة وفق أجندات انتفاع يجعلنا نعيد التساؤلات ونقوي شوكة الشك في الأهداف حتى نقطع وتر المتربصين...!