أفغانستان وإعادة بناء الدولة

علي الرئيسي **

أحد المظاهر اللافتة للتغيير أنه عندما انسحبت جماعة طالبان من مدينة قندهار عام 2001، هو مظهر الفتيات وهن في طريقهن نحو المدارس بملابسهن المدرسية، وكانت الفتاة سحر إحداهن، والتي أصبحت الآن طبيبة في أحد المستشفيات المحلية، كانت مُعتادة على ارتداء "الجينز" أثناء العمل وصبغ أظافرها بألوان فاتحة.

الآن طالبان عادت للسيطرة على ثاني أهم المدن الأفغانية.. سحر، لم تعد مُتأكدة أنهم سيسمحون لها بمزاولة مهنتها، وقد بدأت في لبس حجاب أمها القديم. تقول سحر: "يصعب عليّ تقبل ما يفرضه عليّ الآخرون أن ألبسه... لكن ليس لدينا خيار سوى طاعة من يحكموننا"، نقلاً عن صحيفة "ذي إيكونوميست" البريطانية.

لا يُمكن التطرق للموضوع الأفغاني دون التطرق لانغماس النظام الباكستاني في الشأن الأفغاني منذ بداية السبعينات، وقد ازداد هذا التورط الباكستاني أهمية مع غزو الاتحاد السوفييتي (سابقًا)، ومع بداية حملة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "CIA" والسعودية في تدريب وتسليح المجاهدين الأفغان. وكما قال الكاتب الباكستاني محمد حنيف: إن باكستان وأفغانستان يفترض أن يكونا بلدين بنظام واحد؛ فطالبان نشأت، وترعرعت في المدارس الإسلامية الباكستانية، وتم تنظيمهم من قبل المخابرات الباكستانية وقاموا بالسيطرة على أفغانستان بعد أن عاث فيها المجاهدون الذين تحولوا إلى أمراء للحرب بعد خروج السوفييت. ومن المُفارقات الغريبة حسب محمد حنيف أن طالبان أفغانستان كانت حليفة لباكستان بينما طالبان باكستان كانت عدوة!

طبعاً الحرب الأمريكية وغزو أفغانستان كانت غير مُبررة، وهي جريمة سياسية وأخلاقية حالها حال غزو العراق؛ إذ استغل جورج بوش الابن المهووس دينيًا مع المُحافظين الجدد حادثة برج التجارة العالمي، واتهام تنظيم القاعدة بالمسؤولية عنها، فقامت الولايات المتحدة بغزو بلد فقير ومُتخلف، وتدمير ما تبقى في ذلك البلد بعد حرب أهلية طاحنة. لقد احتلت الولايات المتحدة أفغانستان، وتم تدمير قيادة طالبان وتم سجن معظم قادتهم في معتقل جوانتانامو ومنهم طبعًا من هرب من أفغانستان إلى باكستان؛ حيث تم اعتقاله وتسليمه إلى الولايات المتحدة، أو سجنه في باكستان، ومن ضمنهم الملا عبدالغني برادر؛ الذي يُعد من أهم قادة الحركة حاليًا، والذي كان متواجدًا في كويتا في بلوشستان على الحدود الأفغانية.

لقد فاجأت طالبان العالم بالسرعة التي استطاعت فيها إعادة السيطرة على المدن الأفغانية، وتفاجأ أيضاً العالم والولايات المتحدة بالانهيار السريع للجيش الأفغاني الذي صرفت عليه الولايات المتحدة مليارات الدولارات في التدريب والتسليح.

لماذا فشل الغرب في إعادة بناء الدولة، رغم عدد ضحايا هذه الحرب الذي بلغ أكثر من 100000 قتيل، وإنفاق ما يزيد عن 2 تريليون دولار على مدى 20 عامًا من احتلال أفغانستان.

يزعم البعض أنه لبناء دولة مستقرة، دولة يحترم فيها القانون والنظام فلابد منذ البداية بناء مؤسسات للدولة. لقد قدم عدد من الخبراء نصائح عديمة الفائدة للمسؤولين الأمريكان؛ حيث تبنى الجيش الأمريكي مسألة إعادة بناء الدولة في أفغانستان على أساس أنها مشكلة هندسية بحتة. أفغانستان كانت تفتقر إلى مؤسسات للدولة، تفتقر إلى مؤسسات كُفؤة لحفظ الأمن، للمحاكم، كما تفتقد لبيروقراطية مدنية لإدارة الدولة.

والحل بالنسبة لهؤلاء الخبراء الذين استعانت بهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة، هو تدفق الموارد وتحويل الخبرات من الأجانب (الحكاية التقليدية للتنمية في معظم الدول النامية)، طبعا المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المساعدات الخيرية الأجنبية متواجدة؛ سواء إذا كانوا مطلوبين من المجتمع المحلي أم لا. ونظرًا لأن هذه المشاريع تتطلب وجود بعض الأمن فإن القوات الأجنبية والمرتزقة المتعاقدين متواجدين لتوفيره.

إن نظرية بناء الدولة من الأعلى للأسفل؛ أي الدولة أولا، التي تبناها المنظرين الأمريكان حسب دارون إيكامجلوفي من مؤسسة "بروجكت سنديكت"، يتبعون نظرية في العلوم السياسية، ألا وهي إذا استطعت أن تُهيمن عسكريًا على منطقة ما، وأن تحيد القوى الأخرى يمكن لك أن تفرض إرادتك على الآخر (وهو عين ما تطبقه إسرائيل في فلسطين المحتلة). لكن في معظم الحالات هذه النظرية ليست صحيحة كليا وفي حالة أفغانستان كانت خاطئة تمامًا.

بالطبع أفغانستان كانت بحاجة إلى جهاز دولة قادر على أن يوفر الخدمات للناس، ولكن أن تفرض هذا الجهاز من الأعلى عن طريق قوة محتلة، أمر مختلف، وخاصة في مجتمع متجانس كأفغانستان؛ حيث التقاليد والقيم المحلية قوية جدًا، وحيث إن مؤسسات الدولة ضعيفة أو غير موجودة. وهذا لا يعني أنه كان على أمريكا التعاون مع طالبان لبناء الدولة، ولكن كان بإمكانها التعاون مع قوى محلية أخرى؛ عوضًا عن خلق طبقة عميلة ومنتفعة وفاسدة لإدارة عملية البناء.

لقد كان الوضع الذي واجهته الولايات المتحدة في أفغانستان أسوأ من حيث بناء الدولة؛ فالأفغان منذ البداية كانوا ينظرون إلى الولايات المتحدة كقوة احتلال، فرضت إرادتها لإضعاف قيم ومبادئ المجتمع. لذلك تحول معظم الناس إلى معادين للاحتلال، وكانوا فقط ينتظرون الفرصة التي منحتهم إياها طالبان، والانسحاب الغربي لتخلص من النخب الفاسدة والحكومة العميلة.

هل تغيرت طالبان أم إنها ستفرض رؤيتها السابقة في إدارة الدولة والمجتمع؟

نتمنى- ولصالح الشعب الأفغاني- أن تُشكل طالبان حكومة موسعة تضم معظم أطياف الشعب الأفغاني، وأن لا يكون ذلك فقط مناورة سياسية مرحلية؛ إذ إن أفغانستان بحاجة للمجتمع الدولي لمساعدتها في تخطي عزلتها السياسية، كما إن الشعب الأفغاني بحاجة للاستقرار والحرية والتنمية بعيدًا عن التدخلات الأجنبية.

**باحث في الاقتصاد وقضايا التنمية