ماتت أمي.. مات الحب

مدرين المكتومية

قبل أيامٍ.. انفطر قلبي وانشقت روحي وخارت قواي، ولم أعد أرى في الوجود وجودًا، وفجأة مرَّ أمام عينيي شريط طويل من الأحداث والذكريات والابتسامات والآهات، التي أدركت في لحظتها، أنَّها لن تتكرر.. فقد ماتت مريم.. أمي.. مات الحب.. رحل الحنان وودع دارنا نهائيًا.. غاب القلب الرؤوم، تجمدت اليد الدافئة الحانية التي كانت تربت على كتفي، واستلقي بين أحضانها فأتنهّد اطمئنانًا.. ماتت التي كان يُكرمني الله من أجلها.

لن أبكيكِ يا أمي، فبكاء العمر كله لا يكفي، سيظل الحزن يُلازمني.. سيبقى رفيقي في الحياة، لن أتمكن من نسيان عينيكِ وهي تنظر إليّ في آخر لحظات الحياة، نظرة وداع، كنتُ أكذبها في نفسي، وأُمني النفس بأن الأجل لن يأتي الآن، وأن الله سيمد في عمرك سنوات وسنوات، لم أستوعب نظرة الامتنان التي كانت مُصوّبة نحوي، بين جدران غرفة العناية المركزة.. كانت تتحدث في صمت، تُطلق الوصايا دون أن تنطق ببنت شفة.. إنها نظرة الوداع من مقلتين مليئتين بأنهار من الدموع الدافئة، تتساقط على وجنتين رقيقتين، فينفطرُ قلبي رأفة ورحمة بها.

أمي الحانية، لم يتحمل قلبها الرقيق في سنوات عمرها الأخيرة، الأمراض التي ألمت به، أعلمُ في داخلي أنها لم تكن أمراض ناتجة عن مشكلات عضوية؛ بل إنَّ قلبها الصغير أضعف من أي يقوى على تحديات الحياة، فقد كانت هي الأم والقائد والمُدير والرئيس لمنزلنا، ظلت سندًا ودعمًا لأبي- أطال الله عمره- ولي ولأخي ولشقيقاتي، ظلت هي التي تمد يد العون، كانت الترياق الذي نتوق له كلما ضغطت علينا الحياة، كانت أمي الملجأ والملاذ الذي نهرب إليه من صراعات الدنيا وتحدياتها، تحملت ما تنوء من حمله الجبال، تحملت مسؤولية أسرة كاملة؛ أبٌ وشاب يافع و5 فتيات. رحلت مريم، التي لم تكن مُجرد أمٍّ أنجبتني لتمارس الأمومة؛ بل إنها من اللحظة الأولى كانت تراني قطعة منها، جزءًا من قلبها الرقيق، كنتُ لها الابنة والأخت والصديقة.. كنت رفيقة عمرها. غابت أمي عن دنيانا دون أن تُكمل عقدها الخامس، لم تتجاوز الـ49 ربيعًا.. كنتُ مستودع أسرارها، ومستشارها في كل صغيرة وكبيرة، كنتُ ظلها الذي كانت تهتدي به في طرق الحياة.. لطالما شعرتُ أنني نسخة منها، فإلى جانب أنني أكبر ذريتها، كنت لأخواتي الأم، شاركتها الأمومة مع أخواتي جميعهم، تقمصت مهامها بكل تفانٍ وإتقان، رغبة مني ألا تكون وحيدة في معمعة الحياة، سعيتُ بكل جهدي أن أظل ظهرًا لها وساعدًا أيمن، تتكئ عليه كلما ضاقت عليها الدنيا، وزادت الهموم والأوجاع.

رحلتْ مريم بهدوء، كما عاشت بهدوء دون ضجيج أو صخب، رحلت وهي تدرك تمامًا أنَّ لقائي بها في يوم الخميس 19 أغسطس هو اللقاء الأخير.

خميسٌ حزينٌ قاسٍ مرّ علينا جميعًا.. فما أشد الألم عندما يعتمد عليك الآخرون لكي تكون رسول الخير حامل البشرى، كانوا يحبسون الأنفاس؛ لكي يسمعوا مني نبأ تحسن حالتها الصحية وأنها ستُغادر العناية المركزة بعد ساعات أو حتى أيام، لا يفرق، المهم أن تخرج بسلامة وصحة.. كانت الساعة تشير إلى الواحدة و12 دقيقة، حين وصلتُ لغرفتها في الطابق الثاني من المستشفى السلطاني المرموق، دخلتُ لأرى عينيها وأبتهج بنظرتها لي، لم أكن أعلم أنها نظرة اعتذار مُسبق عمّا سيحل بنا من حزن وكآبة بعد سويعات، مسحت بيدي على رأسها، وطلبت منها عدم الحديث حتى لا تصاب بالإرهاق، أخبرتها أنَّ الجميع ينتظرها، فكانت ردة فعلها "الصمت"، كأنها ودت لو تقول "لم يعد هناك وقت للانتظار يا بنيتي"، سكتت سكوتًا ألقى بسهم نصله مدبب في أعماق قلبي، لم أكن أستوعب السبب، لم أتخيل يومًا أنها سترحل عنَّا.. ورغم ذلك قلت لها: "سأتركك لترتاحي، وسأعود في المساء.. لا تقلقي.. الطبيب يقول إنَّ حالتك مستقرة...".

وفي لحظة خروجي من العناية المركزة، إذا بهمسٍ في نفسي يقول لي إنَّ حدثًا جللًا سيقع، وظللتني غمامة من التيه وعدم الإدراك، شعرت أنَّ العالم أصيب بالخرس، فلم أكن أسمع سوى صوت أمي، ذكريات كثيرة مرَّت بسرعة البرق أمام عيني، صوتها الحنون وهي تنادي عليّ كان يسري بين أذني، لم استفق من هذه الحالة إلا برنين هاتفي في الساعة الرابعة وثلاث وعشرين دقيقة، إنِّه ابن خالتي يتصل: "مدرين أنت وحدك؟ أيوا.. إيش صار.. خالتي ماتت..!!".

اختنق صوتي، واحتبست الدموع في عينيْ، ارتفعت حرارة جسدي وكأن دمي يغلي، تعرقت وكأني بسكرات الموت تلاحقني، أقول في نفسي: من لي بعدك يا مريم.. أتتركيني وحيدة في هذه الدنيا.. هل هانت عليك العشرة.. وإذا بصرخة مكتومة تنطلق في أحشائي وتهز جسدي بالكامل، صرخة لو سمعها الآخرون لظنوا أنَّه نفخٌ في الصور! لم أدرك حقيقة نفسي إلا بعدما ضربت قدمي في الأرض بقوة لم أعرف من أين أتيتُ بها، فشعرتُ بوجعٍ، فانفجرت الصرخة الحبيسة، وانفجرت أنهار الدموع من مقلتي، صرتُ أهذي بكلمات وعبارات؛ كيف سأخبر أبي وإخوتي، من سيكون لهم الأم؟ كيف سيستقبل أبي نبأ وفاة شريكة العمر..

أيا مريم يا حبيبتي، يا من ترقدين الآن في برزخ لا نعلم عنه شيئًا، هل كان يجب عليكِ أن ترحلي بهذه السرعة؟ كيف لا أبكيكِ والألم يعتصرني حزنًا وكمدًا؟ أمن الإنصاف أن تتركيني في هذا الوقت؟ لماذا الآن..؟ لماذا لم تمنحيني فرصة كافية لأقدم لك المزيد، لأمنحك مزيدًا من السعادة، كيف وألف كيف يا أمي..

يا حبيبة القلب، لقد كنتُ أحيا على وجه هذه البسيطة ببركة دعائك أنتِ وأبي، كنتُ استمد منك الطاقة الإيجابية من صبرك وحلمك وقوة تحملك، كنتُ أجدُ السعادة الغامرة بنظرة رضا منكِ، استمتع بحديث المساء الذي كنَّا نتبادل فيه أطراف الكلام عن كل ما تريدين البوح به لي، كنتِ عالمي الخاص..

أعلمُ أنَّه لا اعتراض على قضاء الله وقدره، لكنه الموت يا أمي، المصيبة الكبرى في هذه الدنيا، إنه ذلك الشيء الذي لطالما أفزعني وأخافني، لأنه يعني لي الفقد والحرمان الأبدي.. لقد أسرع إليكِ الموت وخطفك دون انتظار، لم تدخل فرحة زواج شقيقاتي الصغيرتين إلى قلبك، لم تسعدي برؤية أخي حاملًا شهادة البكالوريوس في التخصص الذي يبرُع فيه، لم تشاهديني بفستان الزفاف الأبيض.. لكني رأيتك في كفنك الأبيض... آهٍ وأواه لهذا المشهد الدرامي الفاجع.

رحيلِك كسرنا جميعًا، لم يكن سهلًا ولن يكون أبدًا، بكى الجميع لأجلك، حزن الأقربون وغيرهم على وداعك لنا، اسودّ الفؤاد كمدًا وحزنًا، فانطفأت الروح.. وغابت البسمة، ورحلت عن نفوسنا مشاعر الاطمئنان والأمان.

فسلامٌ عليك يا مريم يوم ولدتِ ويوم متِ ويوم تبعثين حيَّة بإذن الله.. سلامٌ على روحك الطاهرة، التي صعدت إلى بارئها.. فالله أسأله لك الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا..