د . خالد بن علي الخوالدي
كلما زاد الحديث عن الفساد، تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام التي تنظف فيها المدرسة بالماء والمنظفات، وتصبغ الجدران الملونة بكل ألوان الطيف حتى تعود إلى طبيعتها بعد الإنشاء وأحلى مما كانت، ويُختار فيها الطلبة النجباء ليكونوا في الصفوف الأمامية، وأولئك الذين يلبسون الملابس النظيفة ليكونوا في الاستقبال، ونرى المدرسة شعلة من النشاط كخلية النحل تماماً، ندرك حينها أن كل هذا ليس لوجه الله ورغبة في بيئة مدرسية راقية، وإنما لأنَّ هناك مسؤولاً قادماً، أو لجنة من الوزارة سوف تزور المدرسة.
كل يوم نتحدث في مجالسنا عن الفاسدين والمفسدين ونشير بأصابعنا إلى كبار وصغار الموظفين، بأنهم عاثوا في الأرض الفساد، وننسى أننا تربينا ومنذ صغرنا على الفساد دون قصد منِّا؛ بل ممن كانوا قدوتنا الذين يوجهوننا ولا نعمّم، وتشربنا وجهاً من الفساد في سن المدرسة، حينما يتم تغيير كل شيء في المدرسة حتى يرى المسؤول القادم إليها أنَّ كل الأمور على ما يرام، وعندما يُمْنَع أي طالب من أن يتكلم مع المسؤول، وعندما يجعل مدير المدرسة ومن يُرافقه المسؤول الكبير تحت المجهر، ويريه الوجه الأنصع والأبيض للمدرسة، بينما المدرسة تئن من نقص الكراسي والطاولات المتكسرة، والمختبر المدرسي الخاوي، والذي يتم تجميع مستلزماته وقت الزيارة بينما هو أشبه بالبيت الخراب، والمقصف المدرسي الذي يتم تنظيم عملية البيع فيه واصطفاف الطلبة في ذاك اليوم، ويظهر الطلبة وكأنهم يفطرون في جو أشبه بأجواء المقاهي الراقية، فيما كان بعض الطلبة قبل يوم الزيارة لا يفطرون بسبب الزحمة والتدافع، وكنَّا بصراحة ندعو الله أن يقوم أحد المسؤولين المعنيّين بزيارة المدرسة كل يوم.
عندما يتحدثون عن المفسدين والفاسدين ومن في زمرتهم، أتذكر الأرصفة التي تُصبغ، والأشجار التي تُغسل بالماء، والحشائش التي تُقتلع من على جانبي الطريق بفريق كبير من العاملين، وتلك النخيل التي تُغرس في ليلة وضحاها، وذلك المدير المسكين الذي يجوب الشوارع، ويُدخل رأسه في مجمعات القمامة حتى يتأكد أنها نظيفة، وينزل من مكانته العالية التي كان عليها طوال شهور أو سنوات، ليرى الوضع العام في المدينة أو الولاية؛ بل المحافظة أحيانًا التي يشرف عليها، فنشعر نحن المواطنين البسطاء أن هناك أمراً ما سوف يحدث فإذا هي زيارة كريمة لمسؤول كبير.
تعلمنا الفساد عندما يزور المسؤول مؤسسة حكومية ليرى أن المؤسسة كاملة مكملة، وأن أمورها "عال العال"؛ لأن المدير العام أو المدير فرش له الطريق الذي يمشي عليه بالورود والياسمين، ومنع كل الموظفين من الحديث مع الوزير أو الوكيل وأدخله إلى مكتبه ووفر له الطعام اللذيذ الذي يناسب صحته، فهو يعرف ماذا يحب هذا المسؤول من الأكلات، فبعض المسؤولين يشترطون في نوع الطعام الذي يتناولونه، صدقوني أن بعضهم تعب من اللحم ويحب أن يأكل (خمباشة مالح أو عوال).
أتذكر مرة أنَّ أحد الموظفين تكلم مع وزير قبل أن يركب سيارته وقدّم طلباً عاماً يخص المؤسسة وليس خاصاً لنفسه، وبعد أن غادر معاليه تمَّ تعنيف هذا الموظف، وكان قريباً من دخوله (التحقيق) بحجة تحدثه مع معالي الوزير في أمور عامة وبدون إذن مسؤوله، و"أنت مالك دخل" و"نحن المسؤولين فقط من نتكلم عن هذه الأمور"، والجميل أنَّ معاليه سمع للموظف ونفذ طلبه الذي كان لخدمة المؤسسة التي يعمل بها والتي زارها الوزير.
أتذكر أيضاً ذلك اليوم الذي قفز فيه أحد المواطنين أمام معاليه وأخبره بقضية أدخلت المدير ومن معه في قضايا كبيرة، وتمَّت معاقبة المدير بنقله إلى مكان آخر تعزيراً له، وهو عقاب قوي للفاسدين في ذلك الوقت.
المؤسف بل المؤلم أننا نحن من يصنع الفساد والفاسدين مسؤولين وموظفين، لذا علينا أن نبدأ بمنع الفساد من القاع حتى نصل إلى من هم أعلى، ولن يتلاشى الفساد إذا كنَّا نربي أجيال المستقبل في مدارسنا على تمجيد الواقع الذي قد تشوبه سلبيات كثيرة، وتلميع الصورة التي قد تكون مُشوّهة، ولن يتلاشى الفساد إذا ساير الموظف مسؤوله المباشر الذي يريد تلميع صورته أمام المسؤول بالسكوت والخنوع عن المُطالبة بتعديل الوضع، والصمت عن الحقوق، والرضا بالظلم، وقبل أن نتباكى في المجالس ونتحدث عن (الفاسدين)، علينا أن ندرك أننا جزء من الفساد الذي تربينا عليه في مدارسنا .. ودمتم ودامت عمان بخير.