التاريخ.. قداسة واتهامات!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"إن بين الجهل والجور والتخلف تلازمًا عضويًا؛ فهو ثالوث مترابط يخنق عقل المجتمع ويلغي فردية الإنسان ويوقف حركة التاريخ" إبراهيم البليهي.

قبل سنوات كنت أجلس مع أحد كبار السن، وتحدث بكلام اعتبرته غريباً وبصراحة وقتذاك لم أستوعب كلامه، لكن لم تُغادرني كلماته، على فكرة هو أمِّي لا يكتب ولايقرأ، أي كما يقول أهلنا بأرض الكنانة  "ما يفك الخط"، لكن كلماته لها وقع، وبحكم العمر عانى تجارب مريرة بالحياة حسبما علمت منه، وبين وقت وآخر أتذكر كلماته، أحللها وأتفكر بها، كان يقول وبتأكيد جازم بأنَّ الدنيا لا يوجد بها سوى حقيقتين جازمتين: الحياة والموت، وأن كل شيء غير الحقيقتين قابل للنقاش والطرح والضرب والناقص والزائد.

 قال لي: يا بني إياك وتقديس الأشخاص فهم ليسوا ملائكة، لا تحملهم فوق طاقتهم المحدودة، وأن المثالية كذبة كبيرة يصدقها السذج، كلنا بشر من لحم ودم، قد أكون مثالياً ومضرب مثل في ناحية، لكن بنواح أخرى قد أكون أبرز مثال للسوء، يا بني اعط الإنسان قدره وفق ما ترى والظاهر، وأترك الباطن والمخفي لله، لا تفتش كثيرًا، سألته: طيب ونقل التاريخ وأمانة المؤرخين، ابتسم وقال خذ ما تقتنع به، وأترك البقية للتفكير والتحليل والبحث!

دائماً عندما أتذكر كلام الكهل الكبير تحضرني آية: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف: 54).

في قراءة التاريخ ستواجه حقائق، قد تعتبرها بحسب وجهة نظرك اتهامات، لكنها قد تكون حقيقة تبقى واقعًا لا مفر منه، تتذكره الأمم الحية ليكون درساً للمستقبل، عندما تتصحف كتب التاريخ ستجد أحداثاً لا تنتمي إلى المعقول، تحاول استيعابها فلا تجد مخرجاً من الاتهام بأي شيء غير الحقيقة، لكنها في النهاية سجلت كحقيقة، ودونت بسطور الالتقاء مع واقع كتب ليصدق!

هل أنا أتَّهم التاريخ (حتى المؤرخون من ضمن المقصود) بعدم تمام المصداقية، هل هناك دلائل فطرية أو حسية أو تجسيد لمواقع الحدث وهل مطلوب مني تصديق كل مكتوب، وإن لم اقتنع، وإن لم تركب الفكرة تركيبا عقلانيا، هل أستخدم عبارة: حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له !

في العلوم الإنسانية وأيضاً التاريخ كل شيء قابل للنقاش والدحض والتنويه، لأن الحقيقة ليست ثابتة على الدوام في الدراسات الإنسانية؛ بل قد تتغير وتفكك عباراتها وتبنى على أسس متجددة بحسب المبحوث.

أتذكر في إحدى مراحل دراستي للتاريخ، كان النقاش حول أحد الأحداث بالعصر العباسي، سمح أستاذ المُقرر بحرية إبداء الرأي، فاختلفت معه في إحدى الجزئيات الهامة بتحليل ذات الحدث، حاول الأستاذ إقناعي بمعقولية الحدث وأعطى مبررات لكني حتى اللحظة لم أقتنع!

هنا لا أقول إني أفضل من أستاذي القدير أستاذ المقرر، لكني أتحدث عن تفكير وهو حفظه الله يتحدث حول محور آخر، لن أتجرأ وأقول رأيي أصح، العين لا تعلى على الحاجب، لكني أتحدث عن وجوب إعطاء الباحث التاريخي ولو هامش معقول من الحرية في البحث والاستنباط والاستقصاء والتحليل، لا يمكن أن نبقى على كتب مُعينة وكأنها مقدسة، برأيي كل من يكتبه إنسان معرض للبحث والتحليل والنقض والنفي مع إعطاء الاحترام المطلوب لمجهود الكاتب والمادة العلمية الكتاب المراد نقده، لأن النقد البناء لا يلغي أهمية المنقود والمبحوث، لاننسى أن المؤرخ بشر، وليس كل حدث متوفرة معلوماته الدقيقة؛ بل إن العديد من الأحداث تم تأريخها بناء على حدس المؤرخ وربطه بين عدة نقاط أدت للوصول لنتيجة تثبت صحة نقل حدث ما، هنا لا نطعن ولا نكذب إنما ليس مطلوباً من كل باحث أن يصدق كل شيء وأي شيء، بالنهاية نحن بشر وهناك من تقف المبادئ والقيم وراء كل ما يكتب، وهناك من تحركه العاطفة أو الانحياز أو قل إنَّ عنده خدش في المصداقية، هل يحصل مثل ذلك؟ ربما!

يقول الكاتب حسن العطار: ثقافة تقديس الأشخاص لن تختفي من المجتمعات العربية إلا إذا محونا من كل قواميسنا اللغوية مفردات من قبيل الرموز التي لا تمس والذوات المقدسة. ولعلاج هذه المشكلة لابد من الاعتراف بوجود فرق واضح بين النقد البناء الذي يبرز الإيجابيات ويشيد بها، ويعالج السلبيات ويصححها بأسلوب حضاري وإنساني يبتعد عن التجريح وتناول ذات الشخص الذي نريد نقد بعض أفكاره. كل شخص يتعرض للشأن العام مهما كان موقعه في المجتمع. (1)

أخيرًا.. انظرْ حولك، قبل أيام سقط نظام الحكم في أفغانستان، واستولت على الحكم حركة طالبان بشكل دراماتيكي، تصور لو أنك مؤرخ أفغاني عشت الثلاث فترات فترة حكم طالبان الأولى ثم الحكم إبان الوجود الأمريكي (لن أقول احتلال) الذي أفرز حكومات عليها ما عليها (حالة فيها تشابه إلى حد بعيد مع العراق)، ثم فترة سقوط الحكم المدعوم أمريكيا وعودة طالبان مرة أخرى، ما الذي سيكتبه المؤرخ أثناء أول فترة لطالبان ثم بعد سقوطها، ومن ثم بعد عودتها، هل سيكتب الحقيقة؟

فكر.. وقس على ذلك فترات وأزمنة التاريخ.

_____

  1. الكاتب: حسن العطار، مقال: تقديس الأفكار والأشخاص يعيق التطور الحضاري، الناشر: جريدة إيلاف الإلكترونية نشر في السبت 24 أكتوبر 2020 - 11:30 GMT.

الأكثر قراءة