إشكالية التواصل اللغوي بمحافظة ظفار

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

 

نفتقر في سلطنتنا الحبيبة إلى فئات وازنة وضرورية لكل مجتمع كالمؤرخين والفلاسفة والباحثين الاجتماعيين بشتى صنوف المعرفة الفنية منها، والتاريخ الاجتماعي والقبلي والمناطقي المواكب، والعارف بأطوار التحولات الاجتماعية لأطياف الدولة عبر تاريخها المُعاصر والقديم وصولاً إلى واقع حال اليوم.

هذا الأمر لا يُعد ترفًا ولا وجاهة فكرية ولا هواية شخصية بقدر ما هو ضرورة علمية صرفة ومُلحة تمليها الحاجة والضرورة؛ لخدمة العقل والذاكرة الجمعية لكل مجتمع على ظهر اليابسة. ما نراه اليوم في سلطنتنا الحبيبة من جهد وحِراك فردي خجول ومبتور لتدوين جزء ما من تاريخنا الاجتماعي أو القبلي أو توثيق التاريخ المروي أو الاعتناء بالموروث المادي على شكل مُقتنيات شخصية، أو متاحف خاصة تصب جميعها في خانة ضرورة تأطير وخلق فئات معرفية تُعنى بكل هذا بطرق علمية تأصيلية نافعة ومثمرة ودائمة، وكأدوات علمية يمكن البناء عليها رأسيًا وأفقيًا بكل سلاسة وموضوعية، وهذا يتطلب منِّا على الصعيدين الرسمي والأهلي دعم الجهود الخيرة للراغبين من أبناء الوطن في طرق هذا الجانب المنسي، والهام جدًا لتوثيق وتأصيل جوانب الحياة، والمناشط المجتمعية في السلطنة عبر مراحل تاريخها بشقيه المادي وغير المادي.

حين أعود إلى عنوان ومحتوى هذا المقال توصيف إشكالية التواصل اللغوي بمُحافظة ظفار فلن أخرج عن سياق الانطباع والتأمل والرصد الشخصي في الظاهر والمضمون؛ وذلك لعدم وجود دراسات أو بحوث علمية تناولت هذه الظاهرة الصامتة وأنصفتها توصيفًا وتحليلًا. فمجتمع محافظة ظفار مجتمع فريد على مستوى السلطنة وربما الوطن العربي، فهو مجتمع في إقليم جغرافي واسع، ويتشكل من 3 فئات اجتماعية، قلما تلتقي في مجتمع وإقليم واحد: مجتمع حضري ومجتمع ريفي جبلي (هناك أرياف منبسطة وغير جبلية) ومجتمع صحراوي. وقد صنف علم الاجتماع كل فئة بعلمها المختص؛ حيث نجد علم الاجتماع الحضري، وعلم الاجتماع الريفي وعلم اجتماع خاص بالصحراء وحياة البادية؛ حيث يتميز لكل مجتمع منها بخصائص وسمات تختلف عن الآخر بحكم الظروف المعيشية، والمناخ والتضاريس وإن التقت جميعها لاحقًا في سمات وصفات كبرى جامعة تُمثل الصفات والسمات العامة الكُبرى للإقليم كمحافظة ظفار مثلًا.

سأحصر مقالي هنا في عنوانه لعدم التشعب- رغم أهميته- كون إشكالية التواصل اللغوي من الأهمية التنبه لها، وتسليط الضوء عليها أولًا فلعلها مفتاح لحلول مشكلات وظواهر أخرى ذات صلة عضوية بها.

تُعرف اللغة بأنها كائن حي ينمو ويتوقف عن النمو، ويموت بفعل عوامل الاعتناء والهجر وسطوة المؤثرات اللغوية من حوله، لهذا كانت اللغة الجبالية (استخدم المصطلح الشائع) قبل النهضة المُباركة عام 1970م طاغية في محافظة ظفار وخاصة في المدن والجبل بكامله؛ بل وكانت المُعين الذي تغترف منه ما تُسمى بـ"عربية المدينة" المفردات والجُمل والأمثال بشكل كبير، وذلك بسبب انقطاع الحبل السري اللغوي بين عربية ظفار وعربيات الجوار العربي؛ حيث لا توجد وسائل تواصل علمي ولا ثقافي ولا إعلام يُغذي عربية ظفار وينميها كأي لغة تنشد النمو والتطور بفعل الممارسة والسعة والانتشار والتلاقح مع مثيلاتها.

بعد عام النَّهضة المباركة ونتيجة لتدفق اللغة العربية ولهجاتها عبر وسائل التواصل الحديثة من إعلام ومعارف ومناهج تعليمية حديثة، وتوافد جاليات عربية ولسهولة التواصل وتعدد أقنيته مع العالم الخارجي، طغت اللغة العربية بظفار، واستعادت بريقها ومكانتها الطبيعية، وانحسرت اللغة الجبالية تدريجيًا وبشكل واضح؛ لتناقص أهميتها في التواصل والاستعمال، كونها لغة محكية أصلًا، وغير مدونة، ولا تمتلك قوة اللغة العربية في تعدد الاستعمالات على الصُعد الرسمية والإعلام والتعليم بمراحله. ثم أتى التخطيط الحضري، وتوافد أبناء محافظة ظفار بحكم التعليم والمعيشة والعمل على مدن المحافظة وعلى مدينة صلالة بالتحديد؛ فاتسعت مساحة عربية المدن المطورة وتقلصت مساحة اللغة الجبالية، وهُجر الكثير من مفرداتها وجُملها نتيجة معادلة التأثير والقوة للغة الأم وهي العربية.

الإشكالية التي لم يتنبه لها الكثير في هذا الخضم اللغوي الجارف هو القطيعة اللغوية، وصعوبة التواصل بين أجيال المحافظة وأبناء المكون الريفي خاصة، بل قد تجده في البيت الواحد، حيث الآباء يتمتعون بلغة جبالية عميقة وواسعة وثرية والأبناء في الغالب لغتهم هجين من العربية والجبالية لا تترجم المشاعر، ولا تلبِ حاجات التواصل الطبيعي بين النَّاس؛ بل وصل الحال ببعض الأسر أن جيل الأبناء يفهمون الخطاب الجبالي، ولكنهم عاجزون عن الرد به فيلجأون إلى اللغة العربية كوسيلة تعبير مريحة، وفي المقابل قد تكون غير مريحة ولا مفهومة لجيل الآباء، بينما المتأمل في مجتمعات محلية أخرى في سلطنتنا الحبيبة سيجد القطيعة في المفاهيم، ولزوميات وأعراض الصراع بين الأصالة والمعاصرة القديم والجديد فقط بينما التواصل اللغوي لم ينقطع بين الأجيال.

هنا، لم تتشكل حالة من إشكالية التواصل اللغوي بين الأجيال وأعراضه المعروفة كون اللغة تعابير ومشاعر قبل إيقاعها وأصواتها، بل برزت قطيعة وفجوة بين الأجيال كنتيجة حتمية لهذا الصراع الخفي، فلا الآباء يمكنهم الانتقال نحو العربية، ولا الأبناء تمكنوا من العودة إلى الجبالية والتصالح مع مجتمعهم الأصلي بالتواكب مع اللغة العربية، ولزوميات التمدن دون تعب أو دفع ضريبة أو انتقاص من مكانتهم ووجاهتهم الحديثة المكتسبة.

قبل اللقاء.. الدراسات والبحوث العلمية هي سلم المجتمعات والدول للظفر بالحسنيين: التطور والمجد.

وبالشكر تدوم النعم.