"طالبان" الرومانسية الثورية المزمنة

أحمد الرحبي

من مُفارقات التاريخ أنَّ كل ثورة تنزع إلى تغيير الواقع، أو قامت في أهدافها على تغيير هذا الواقع، إلى واقع أفضل- حسب نظرتها الثورية- تتعرض هي ذاتها إلى التغيير، ما أن تدخل في خضم الواقع، خاضعة بذلك لشروط الواقع الذي تنشد تغييره.

هذه هي جدلية التاريخ، التي تصنع ديناميكيته وتطور مراحله وتعاقبها، مرحلة خلف مرحلة، بتسلسل شيق مدهش من الأحداث، من ثورة تصحيحية إلى ثورة أخرى تصحيحية تعقبها، كل ثورة من هذه الثورات تنشد برومانسية حالمة تغيير الواقع، لكن الواقع لا يتغير، فالواقع هو الواقع، إنما من يدخل في غماره هو الذي يتغير، بعد أن يستيقظ من رومانسيته الحالمة، مواجهاً الواقع بكل شروطه.

ودائمًا ما يشكل أصالة الثورات، نزوعها إلى تغيير الواقع وتصحيحه، وفق رؤية ثورية حالمة، لكن عندما تنتصر هذه الثورات، ويتقلص أو يكاد ينعدم حينها الفارق بين الرؤية الثورية الحالمة والواقع، يستيقظ رجالات الثورة ومنظروها على هول المفاجأة، فالارتطام بالواقع، يجعلهم يسارعون إلى تدبر شيء من الواقعية، وهو ما يعرف في العلوم السياسية، وأدبيات الثورات، بالواقعية الثورية، أو الواقعية السياسية، حيث ينخرطون في سلوك واقعي يفرضه الواقع على الأرض، مبتعدين عن رومانسيتهم الحالمة.      

حقيقة أن الواقع هو الثابت الأوحد في التاريخ، جعل من الثورات، محاولات حالمة لتحطيم هذا الثابت، وتجاوزه إلى أفق رحب مفتوح، من الخيارات، لكن يبقى الواقع هو المروض العاتي لكل الأحلام، والكاسر الذي تتحطم على صخوره الرومانسية الحالمة للثورات.

وإذا طبقنا هذا المبدأ على حركة طالبان التي ظهرت عام 1994 عقب انسحاب قوات الاتحاد السوفيتي السابق من أفغانستان، نجد أن هذه الحركة ولأكثر 25 سنة ظلت حبيسة شرنقتها التي ولدت فيها؛ حيث تشكلت كمشروع جهادي نضالي، من الطلاب المتدينين من مناطق البشتون في شرق وجنوب أفغانستان الذين تلقوا تعليمهم في المدارس الإسلامية التقليدية في باكستان.

وكان الأفغان، الذين شعروا حينها بالقلق من زيادة أعداد المجاهدين، وأمراء الحرب على نحو مفرط وبسبب ظروف الاقتتال الداخلي في أعقاب طرد السوفييت، قد رحبوا عموماً بطالبان عندما ظهرت على الساحة للمرة الأولى.

ونمت شعبيتهم بدرجة كبيرة نتيجة ما حققوه بسبب حماسهم الثوري، من نجاح في القضاء على الفساد، والحد من الانفلات الأمني، وجعل الطرق والمناطق الخاضعة لسيطرتهم آمنة لازدهار التجارة. ووعدت طالبان منذ ظهورها بإحلال السلام والأمن وتطبيق صارم للشريعة بمجرد وصولها للسلطة، وهو الأمر الذي نتج عنه حينما وصلت حركة طالبان للسلطة في أفغانستان من منتصف التسعينيات وحتى عام 2001، أن أمرت الحركة الرجال بإطلاق لحاهم والنساء بارتداء النقاب، مع حظر مشاهدة التلفزيون والاستماع إلى الموسيقى وارتياد دور السينما، كما رفضت السماح بذهاب الفتيات من سن العاشرة إلى المدارس.

وبعد فترة قصيرة من هجمات 11 سبتمبر 2001، أطاح غزو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بطالبان من السلطة في أفغانستان، وعادت الحركة لتنخرط في حرب ضروس لمدة عقدين من الزمان، مع الأمريكان وقوات التحالف من جانب، ومع المجتمع الأفغاني من جانب آخر. وعلى الرغم من وجود أكبر عدد على الإطلاق من القوات الأجنبية في تاريخ البلد، استطاعت طالبان، باعتمادها على استراتيجية الكر والفر في الحرب، توسيع نطاق نفوذها على نحو مطرد مما جعل مساحات شاسعة من أفغانستان غير آمنة وعاد العنف في البلاد إلى مستويات لم تشهدها منذ عام 2001.

وكما يلخص فهمي هويدي تجربة طالبان في كتابه "طالبان: جند الله في المعركة الغلط" بقوله: "طالبان أثبتوا نجاحاً نسبياً في إزهاق الباطل، لكنهم فشلوا في إحقاق الحق"؛ حيث أخذ هويدي على طالبان الفوضى في إدارة الدولة "لا رئيس ولا مرؤوس"، والسطحية التسلّطية في هندسة المجتمع، فأصبح "ثمة لحية لكل مواطن، وشودري لكل مواطنة" كما يقول هويدي.

بعد الدخول الظافر لطالبان إلى مدينة كابول، وما رافقه من حماسة وتهليل لطالبان المنتصرة- رغم أن طالبان لم تنتصر، بالمعنى العملياتي العسكري، وإنما تمددت في الفراغ الذي خلفه الأمريكيون، بسبب انسحابهم، فطوال العشرين سنة الماضية، حركة طالبان كانت تتمنى الانتصار، من خلال سيطرتها على الأرض، والتخلي عن إستراتيجية حرب الكر والفر، المرهقة، حتى جاءها هذا الانتصار، على طبق من ذهب. كأننا نستعيد، وسط هذا التهليل والحماسة، نشوة الرومانسية الثورية، التي سيطرت على حقبة من مرحلة الثمانينات والتسعينات، وهي نشوة أفيونية- إذا جازت العبارة- خطيرة، تذهب بالعقل، ولا تعويض عن العقل إذا ذهب، فمع ذهاب العقل أو غيابه- لا قدر الله- سنخسر لا محالة، حفنة من الإنجازات التي تحققت في مجتمعاتنا، وهذا ربما موضوع آخر.

للتخفيف من الحماسة والتهليل لنصرٍ لم يحدث، نقول لبعض المتحمسين والمهللين، المصابين بلوثة طالبان: رغم أن طالبان لم تنتصر، بالمعنى العملياتي العسكري، وإنما تمددت في الفراغ الذي خلفه الأمريكيون، بسبب انسحابهم، فلماذا هذا التهليل، لانتصار لم يحدث؟

فطوال العشرين سنة الماضية، حركة طالبان كانت تتمنى الانتصار، من خلال سيطرتها على الأرض، والتخلي عن إستراتيجية حرب الكر والفر، المرهقة، حتى جاءها هذا الانتصار/ الفراغ، على طبق من ذهب.