شاهدٌ من أهلها (5)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

قرأت في صفحة ما، لماذا نجعل الصراع يتسلل دائمًا وأبدًا من باب الفعل وردة الفعل، نحاول قدر الإمكان هزم السلام حتى يقفز ذلك الصراع ويسقط كل ما بنيناه ونقول لحظتها تباً للعجلة، أين المبدأ؟ تخيّلت وقتها واقع الحال، أغمضت عينيّ، وافترضت أننا لانزال في حالة حوارية هادئة، ويدي تُطوّق رقبة زميلي الذي حدثني عن الربيع العربي، وعدتُ إلى الواقع والألم يحاصرني وأنا أقول: تبًا للصراع أعاد كل قديم جميل، وكل عبارة قالها متظاهر سُطّرت على لوح خشبي ضده وليس له، يبدو بأني أصبحت مصاباً بحالة هلوسة وأنا لا أعلم، تباً للصراع، أين الحوار؟!

لم يعد للربيع العربي لا فائدة ولا رجاء ولا نتائج منذُ أن أصبحت الشحناء والبغضاء بذات المكان الذي كنا نعيش فيه سوياً، لم نعد نسمع سوى أحداث يومية تروى بسوء وضجر من رتابة الحياة، فكرت بأنّ أتعرف على عوامل النجاح في دبلوماسية السلام، بدأت أبحث بين هذهِ وتلك، لا أرتبط حتى أنفصل، ولا أنفصل حتى أرتبط، كررت البحث عما يرسخ المبدأ، ذهبتُ بفكري باحثاً عن المبدأ الذي يقوم عليه السلام، وكان كل شيء يُعيدني إلى ثبات هذا المبدأ فيها.

لم يكن هناك شيء ذو قيمة بالنسبة للدبلوماسية العُمانية سوى الثبات على المبدأ في الماضي والحاضر، كم تخالجني نفسي إلى العيش بمجتمع لا يوجد به خِلافات أو حتى اختلافات، لا أحد يقول لماذا أنتَ هكذا؟ ولماذا لا تصبح هكذا؟.

 أنا كجاري، وجاري كجاره، والدولة الأخرى تشبهنا تمامًا، أعلم أن ذلك مستحيلا، ولكن دعني أتخيّل فقط، دعني أعيش بالأمل وأتعطر بنسماته، لتقل بأني واهم، ولا أفقه من الحقيقة شيئا، ولكن دعني أمضي بساحة التفاؤل مُغمض العينينِ ملءَ وجنتيّ ابتسامة، إنَ الخطأ حين يرتكبه جميع الناس لا يصبح خطأ، ولكن ينتقل إلى مرحلة القاعدة العُرفية، ويصبح شيئا مُقدسا بعد أن كان مذمومًا، لذلك لنُوجد مجتمعا نتنازل فيه عن تلك المفاهيم التي نعتقد أنها صحيحة ونفعل غيرها ولو كانت خاطئة باعتقادنا، فتُصبح عرفا مُقدسا لا يوجد من يخالفه بهذا المجتمع، مع المحافظة على المبادئ الضرورية التي يتفق عليها الجميع من الأساس.

تخيّل أن تنتهي الحروب وتنتهي مسألة العرقيّات، ونصل إلى مبدأ واحد مُشترك بأننا أبناء رجل واحد، ومن أم واحدة، ولا يوجد رجل أفضل من رجل ولا امرأة أفضل من امرأة، ولولا الرسوخ على المبادئ، لَما وجدنا القدرة على المواصلة بهذهِ الحياة بين حاقد متربص، وبين ناقدٍ يبحث عن الزلة، ومستهزئٌ لا يعجبهُ العجب ، أو سَمِجٍ مكروهٍ ثقيلٍ على النفس لا تصدّق أن ترى ابتعاده عنك حتى تنشرح نفسك وتعود دقات القلب طبيعية  كما كانت.

من الأقوال التي قرأتها واستحلت بتأثيرها العقلي، الاختلاف بالرأي لا يفسد بالود قضية، هل فعلاً بزماننا هذا الاختلاف لا يفسد بالود قضية؟ أم أنه لا يفسد الود وحسب، بل  يفسد العلاقة بأكملها، ويجعل أي حرفٍ يقال بعد ذلك الاختلاف مرفوضا ولو كان مبدأً راسخاً.

 بواقعنا هذا أصبحتُ أتساءل بكل خيبة: أكسب السلام أم كسب الحرب؟! لأنه وبكل صراحة لا يجتمعان على إناء واحد، لا يوجد من يستعد قبيل النقاش لإظهار الحق على يديّ الآخر، ولا يوجد من يقول رأيي صواب يحتمل الخطأ، ولكن السواد الأعظم يرددون وبصدورهم الغل والشقاق، ويعتقدون الاعتقاد الكامل بأنَ آرائهم مُقدسّة ولا تحتمل إلاّ الصواب والكثير منها تؤول - للأسف - إلى التشكيك، في حين متى اكتسبنا مبدأ قبول الرأي اكتسبنا الإبداع؛ لأنّ التعنت بالرأي يجلب تصورات معروفة مسبقًا.

يُروى أن رجلا مُشرّدا لم يعد لديه دار ولا عقار، لم يعد لديه أصدقاء، يسهر الليل وحده بلا نديم سوى الأنغام، كم حاول الرجوع إلى الناس، وكم رفضه المجتمع حتى اتحدّ مع الجدران، وأصبحت صدى  أنغامه في الكون أجمع، ويعود سبب هذا الرفض لواقعه الذي هو عليه، فقد رموه بسهم من قوس واحدة، ومن سوء حظه لم يكن أمام الله ليقبل توبته كآدم وحواء، بل كان أمام خلائقه الذاكرين لعيوبه والمتناسين لخطاياهم، وأكاد أجزم أن الفرق بين من يُنظر له نظرة العفيف ومن يُنظر له بنقيض ذلك هو مبدأ الستر، وأدهى وأمر من هذا وذاك من يعرّض بهذا المبتلى في كل مكان وزمان ولا يرى نفسه مغتابًا، كيف يذكره بسوء وينسى ما هو واقع فيه.

إن الثابت على المبدأ والصلب في الحق لا يتنازل، يرفض أي شكل من أشكال المساومات وأنصاف الحلول في قضايا مبنية على الثبات، يظل صامدًا أمام الإغراءات والعروض، لا ينثنِي أو يتراجع أمام التحديات والمواقف العصيبة، والمتأمل في نماذج صور الترغيب والإغراء والاستدراج إلى تنازل وأنصاف الحلول في واقعنا، يلاحظ مدى خطورة التحديات التي كانت تهدد بالانسياق وراء مواقف تخالف المبادئ الثابتة، ولولا وضوح الرؤية لدى القيادة العُمانية، واستقامة المنهج مع طبيعة الرسالة وحقائقها وأهدافها من جهة، وسنن التغيير من جهة أخرى، الأمر الذي ترك أثره الواضح، وشكل مصدرا موجها للسير على الطرق الصحيحة، وعكس درجة التحضر والرقي في الثبات والتمسك بالمبادئ والقيم، هذا ما زاد من ازدهار عُمان وتطورها، وساعد على حفظ كرامة وحرية الإنسان العُماني، ونشر الاستقرار والأمان، والسعادة في مختلف المجالات، وتحقيق مساعي وتطلعات عُمان، لإيمانها بأن الثبات على الموقف يحقق الأهداف.

لم يستطع واقعنا إخفاء عواره وفساده، ولذلك فإن هلاكه ينمو مع بذور نشأة أي صراع فيه، وإذا دققنا النظر، نجد أن الحياة فيه قائمة على صراع تحقيق المصالح، لذلك لا يسع الدول الاستمرار إلا بالتنازع، مما أدى إلى ما نحن عليه من معاناة، والقيمة الأهم فيه هي الربح، وبهذه القيمة تم سحق كل مكارم الأخلاق والفضيلة واستبدالها بقيم أخرى قائمة على التغوُّل والتوحُّش، فوجد فيه تنافس وتحارب دولي ظاهره تعايش كاذب، رسخ عدم المساواة والاستغلال، وللأسف فإن المتاهة تدور حول مزيد من الجشع وحب الذات وقتل الغير وسحق الأحلام، نعم، أرادت الدبلوماسية العُمانية أن تتبنى المبدأ الثابت للسلام كونه البديل الحضاري الذي لا يلتقي مع الحروب، فحملته حملًا مبدئيًا يقوم على المفاصلة، السلام مبدأ، وأول مستلزمات إقامة هذا المبدأ إقامة خصوصية دبلوماسية، تكون مغايرة لمبدأ الحرب بكل مفاهيمها وتفاصيلها، امتلكت بها قوى مادية ومعنوية وروحية مكنتها من النجاح، تخلله الصدق الفكري وصحة المعالجة لجميع القضايا التي ارتضت أن يكون لها فيها مساهمة.

 

 

***

يغوص سعادة الدكتور قاسم بن محمد بن سالم الصالحي سفير السلطنة لدى جمهورية تركيا الصديقة، في أعماق الدبلوماسية العُمانية، في كتابه الجديد "شاهد من أهلها"، والذي تنشره "الرؤية" على حلقات في هذه المساحة.

 

تعليق عبر الفيس بوك