شاهدٌ من أهلها (4)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

جميعنا يطلب السلام ويبحث عنه، فنحاول الانشغال بالحياة قدر الإمكان وإن أُثقلت كواهلنا لنتصبّر أملاً في حياة هادئة، نكافح بشتى الوسائل، ولكن أشياء بسيطة تثير ذلك الشي بصدرِ أحدنا.

خرج زميل لي من مكتبه، وفورًا قال لي تلك الديباجة الشهيرة بأن ربيعاً من التغيير يُخيم على الوطن العربي، وقتها أحسستُ بأن الكون لم يعد موجودًا، لم أحزن لا لا، بل جاءني شعور كشعور شيء يقول لي إنَّ آخر أعمدة الدنيا سقط، أعلم بقرارة نفسي بأن الأسواق العالمية مستمرة، والنجوم لازالت معلقة بالسماء، والشمس والقمر يأتي أحدهم ويذهب الآخر، والوقت لايزال يمضي بشكل طبيعي، رغم ذلك شعرت أن الزمن توقف، كحالة الطفل عندما يُغمض عينيه ويظن أنه اختفى، تمنيت لو أن لدي تلك القناعة لأختفِي ولو لم أختفِ بشكل حقيقي، استمر زميلي في حديثه، لم أكن بحاجة للصراحة بقدر حاجتي للكذب، نعم الكذب، لم أكن أريد الكلام الحقيقي والواقعي مع إني لطالما عشقت الصدق، تمنيت أن يقول: إنَّ كل شيء بخير، وأن الوضع العربي يسوده السلام، اكذب بمثل هذهِ الحالة، تبًا للصدق والصادقين، وكأني أرى الموت أمامي يرقص مختالًا وأنا مذهول من انتصاره، لطالما كنت أتوقع أني وأحبابي بحصن حصين منهُ ولكن أثبت بجدارة أن بوسعه أن يطال الجميع. رجعتُ مع الطريق وحيدًا، والصمت الكبير يتسيّد المشهد، هناك أصوات السلاح والناس والباعة، ولكن لا أعلم لماذا لا أسمعها، رجعت بذاكرتي لزمن ما قبل تخرجي في الجامعة لستُ مكتئباً، ولكن لماذا لم يقل لي زميلي على الأقل أن ذلك الربيع سيكون ربيعاً حقيقياً بألوان السلام، بجعبتي آلاف الحكايات والكلمات المخبأة، رأيت المشهد من حولي بلحظة ذهول فأبصرت المتفائل والمتشائم ومن ليست لديه أية مشاعر، خرجت من وحدتي، وفورًا اتصلت، كنت أريد استشارة في كيفية استقبال الربيع وكيفية التَّعامل معه.

كنت كُلَّ ما هممت بالاختلاف مع أحدهم تذكرت مصطلحات الحروب والخراب، والمصائب والمحن، لأجل أن لا أضيّع تفكيري بالتحليل مِن غير طائل، فإنَّ الساعات أو الليالي أو حتى الشهور التي سأتكبّد بها عناء إثبات أنَّ وجهة نظري صحيحة، مِن الأولى استثمارها بما يُفيد، أما مسألة الاحتقان الأعمى فإنها لا تؤثر إلا على صاحبها، كما أنها تجلب إليه الضغط بأسوأ الأحوال، هنا تبادر إلى ذهني مشهد المحتج وهو خارج بمظاهرته، وتبدو على ملامحه علامات الكدر والتعب والحيرة، فيفتشّ عن السبب لانخراطهِ بما سمي التغيير، ولا يجد أحيانًا كلمة تحترم وجهة نظره، يكفيه عناء التوتر حتى وإن كانت وجهة النظر تلك لا تستحق إلاّ ركلها بكل ما يملك الآخر من قوة، ولكن مِن أجل راحة رأسه يهون كل شيء.

قرأت فيما قرأت مَن يذمّ مُجاملة الوضع، وكيف يُشنّع على من يبتعدون عن مواطن النزاعات، فكدتُ أن أنصاع لما قرأت وأحضرت حربتي وسربالي ولكن ماهيّ إلا دقائق حتى عدت لرشدي وتراجعت عن التصادم.

 فهناك مثل قديم يقول: شراء الراحة أهم من شراء الغذاء، والحقيقة أنه لا يوجد مِثال بهذا الشكل، ولكن لم أجد ما يدعّم كلامي من الأمثال فأتيتُ به، المُهمّ وخلاصة القول: أنني قررّت بدءًا اعتزال جميع النقاشات، فأذهب إلى رُكنٍ ركين هادئ مُحاط بهالة تحميني من الأصوات الأخرى، وأجلس بتلك الزاوية أكتب لِمن يقرأ، وأقرأ لمن يكتب، لن يكون هناك استهلال أو مقدمة، فقط أريد القول إنَّ العالم تسوده الفوضى، لم تعد نفسي تطيق مشاهدة الذي يثير شعور التصادم، كيف يكون لدى أحدهم رغبة بإذلال آخر، أو أن يكون هناك رغبة لدى الآخر بتشويه سمعة الآخر أو النيل منه أياً كان، لماذا أصبحنا هكذا؟!

 يجب أن أقول هنا إنَّ الصداع لا يُفارق رأسي ليس لشيء وإنما استغراب من الرغبات والأهواء المريضة، ويجب أن أقول أيضاً إنني أكتب ما أكتب وأنا منور الجبين وباسم الشفاه، كمن شمَّ رائحة زكية أو رأى منظرًا مبهجًا، والحقيقة أن شهادتي تستحق هذه التعابير.

قُدِّر لنا نحن البشر أن نُعمّر الأرض ولكن لا أعلم ماذا حصل لأبناء الذين أكلوا من الشجرة، وذهبوا مذهب الصراع بشتى أنواعه، كنت أرى نفسي وأقول بالطبع: أن البشر جميعهم يفكرون كما أفكر، ويحسون كما أحس، ويتطهّرون كما أتطهر، ولكن لا أعلم لماذا يتصارعون؟!

 أريد الهرب إلى الوحدة، ليست تمنيات طفل ولكن رغبة حقيقية، حيث يُحكى أن امرأ القيس كان له ثأر عند بني أسد لقتلهم والده، فقتل منهم ما شاء أن يقتل، حتى أدرك ثأره ولم يتوقف، فأُنهكت القبائل، فقال بنو أسد بقلوب يكسوها الألم ولتنغصّ سعادتها ولذاتها إنهم مستعدون لتقديم مئة رجل ليُقتلوا مقابل حِجر - أبو امرئ القيس - فتطوى صفحةٌ كلها مرارة، فرفض ذلك، بعدها بوقتٍ ليس طويل مات مسموماً إلى جانب قارورة، ولم يكن حوله سوى نفر قليل من أصحابه الأوفياء.

 ففي شؤون الحياة اليومية، هناك من يتعنت في خلافاته ويطول بها الأمد، إلا أنَّ الذين كانوا يناصرونه فيما مضى قد يعتريهم الملل فيتركونه وحيداً أمام الخلاف الذي لم يستطع تجاوزه، فيُطفئ ديجوره في كل ليلة، ويتحسر على ما مضى ومن مضى أيضًا.

إنَّ الاختلاف لا يجب أن يتطور إلى مرحلة الخلاف، وإن آمنا بهذه النقطة سَتُحل الكثير من الخلافات، فقد حاول البعض أن يحيا بعد كربته ربيعا جميلاً، أو أن تُفرج، ولكن كانت الأيام تلحقه، وتقسم بأغلظ الإيمان أن ربيعه كاذب، وأن الحزن سيبقى مهما حاول، وسيرد عليه الزمان الوعود كاذبة وأوهام زائفة كان يصدقها، وكان يظنها ترياقا لصراعه في الحياة، ويتبيّن فيما بعد أنها نقيض ذلك، والحقيقة أنه لازال بنفس الحفرة يحاول الخروج بلا فائدة، نفذ إلى الشارع وكان يلحقه أعداؤه، ذرف الدمعة، واستبسل بهتافاته وبطشه لينشر السلام على حياته، ولكن لم يكن معه من يقول له: هيا نتحاور، حتى وقع بأيديهم وهو يردد بلا توقف ارحل ارحل.

لقد جسدت الدبلوماسية العُمانية في أكثر من مرة أن هناك أسساً ثابتة، على عرشها الآلاف من المبادئ والقيم، نالت بها النجاحات في مسيرتها، وآمنت بما يتوافق بالسير نحو السلام، وجلست تحت شجرته تهز الجذع حتى يتساقط على العالم رطبًا جنيا، ظللت برحلة التيه أركض بكل طاقتي، تلاحقني خيبات الشعوب، حاولت أن أضرب البحر بعصاي لينفلق نصفين كالطود العظيم، وكانت مُحاولتي ناجحة، وأصررت على أن أدلو بشهادة الثناء لدبلوماسية السلام، حين قالت السعادة والبهجة في نفسي إنني مدركها، وفعلا أدركت نجاحها، بالأمل أعتقد أن العالم سيخرج من هذهِ الدوامة، لا تأتي دمعة إلا ويعقبها آلاف الضحكات، ما إن يتم الحوار على الأسس الثابتة بين تطلعات وحياة الفرقاء حتى يحدث الانفراج بسرعة، مبدأ تمسكت به الدبلوماسية العُمانية في السر والعلن مستخدمة جملة من المؤهلات الذاتية والخصوصيات، فبرز دورها في سبيل تحريك وترقية أسس السلام.

 

***

يغوص سعادة الدكتور قاسم بن محمد بن سالم الصالحي سفير السلطنة لدى جمهورية تركيا الصديقة، في أعماق الدبلوماسية العُمانية، في كتابه الجديد "شاهد من أهلها"، والذي تنشره "الرؤية" على حلقات في هذه المساحة.

تعليق عبر الفيس بوك