شاهدٌ من أهلها (3)

 

د. قاسم بن محمد الصالحي **

إنَّ الذكريات صورة دماغية، وهي جرعات روحية نحملها معنا من الماضي للحاضر، ليس غريبًا أن أذكر قصة سمعتها من زميل لي، وهي أن شاباً كان على شاحنة مع والده يبيعان بضاعة، وحين أقبل مشتر إليهما بادر بالسلام ثم قال، ما شاء الله أهذا ابنك؟! جاوبه الأب قائلاً: لدي سبعة أبناء، وهذا أبرهم وأكثرهم مساعدة لي في عملي هذا، وبعد برهة طلب الأب من ابنه الذهاب للتحقق من وجود غرض ما بعيداً عن مكان وقوفهما، سُرّ الابن لأنَّ في وسعه مساعدة والده، ولا يمكنه أن يبدي أمراً مغايراً عما قاله والده عنه أمام المشتري، فمضى وأحضر ما أمر به والده، نظر الوالد إلى المشتري أثناء انصراف الولد قائلاً: رغم أن ابني هذا أكثر إخوته عنادا وتذمراً، إلا أنَّ تقديم الإطراء له مباشرة يُحرّك فيه المقدرة على التعاون معي ومساعدتي.

وعندما أُسقط مضمون هذه القصة على شهادتي، أجد أنه عبر احتضان المشاورات بين طرفي الأزمة، حرصت سلطنة عُمان على الالتزام بالحياد الإيجابي، فلم تنخرط في سياسة المحاور ومساندة طرفٍ ضد آخر، وهو اختيارٌ مكّنها من فرض مصداقيتها وجدّيتها على طرفي الأزمة، وتوجت دبلوماسيتها بتوحيد الرؤى وإظهار الإطراء والإشادة بما يطرحه الطرفان، وقد حظيت هذه الجهود بإشادة أطراف دولية وازنة.

ومما تمَّ عرضه يتبين لنا أن لتحقيق هَذَا التفاعل الإيجابي والدور الدّبلوماسي، كان لا بد من وجود إدارة للعلاقات العامة لتكون فاعلة ومؤثرة وقادرة عَلَى وضع الخطط والبرامج النّاجحة الَّتِي تعينها عَلَى تحقيق أهدافها، فِي خدمة الوظيفة الدّبلوماسية.

المرء يأخذ حقه من الحياة عنوة، ويُريد أن يُعطي بسخاء، وثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، وثمة ثمار يجب أن تُقطف، ولا شك أن لكل مرحلة ظروفها وسياقها وأدواتها الإجرائية التي تسمح بمعالجة الظواهر ومُقاربتها، هناك صفحات مشرقة في سجل العُمانيين لابد أن تُقرأ، بحيث إن ما كان مستحيلاً في زمن سابق، يمكن أن يكون مشروعاً في زمن لاحق، وإمكانية محققة في راهن ما، بفضل نضوج الفكرة واستشرافها، وقد تُثار تساؤلات حول الثابت والمتغير بين عهد انقضى وآخر تجدد بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق، وغالبًا ما يرتسم أمامنا سؤال يتعلق بمدى وجود خط ثابت موجه لسياسة عُمان بالمحيط؟ فهل صحيح أن هناك تراجعا وتخليا عن التفاعل كثابت في السياسة الخارجية العُمانية كما كان عليه الحال في عهد السلطان قابوس بن سعيد؟! أم أن الإشكالية كانت في المتغيرات الدولية، وبالتالي فالتغير ليس تغيرا في الثوابت بقدر ما هو تغير على مستوى القدرة على تفعيل هذه المحددات وتوظيفها بشكل يحقق المصالح، إذا كانت الظروف الدولية لعقدي السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي قد سمحت لسلطنة عُمان بأن توفق بين ضرورات الالتزام القومي ومتطلبات النظام الدولي ومصالحها في المنطقة، ومن ثم تحقيق فضاء خليجي تعويضي مساند، فإنَّ الظروف الدولية الجديدة لم تعد تسمح لها بذلك، فالاستجابة حتمية للمتغيرات الدولية، وسعيها لأن تُقدّم نموذج للإصلاح قد أثر بشكل أو بآخر على علاقاتها مع البعض، لكن هذا لا يعني أن عُمان تراجعت عن التفاعل الإيجابي في دبلوماسيتها، بل لازالت سائرة في إطاره، تنطلق من واقع التنافس الاقتصادي، حيث أصبحت أولوية السياسي والعسكري ثانوية بالمقارنة مع أولوية الاقتصادي، وصارت الشؤون الاقتصادية والتجارية تحتل مكانة الصدارة في سياستها، والمواجهات أصبحت اليوم اقتصادية أكثر مما هي عسكرية، كما أصبحت الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف أداة ردع، تحاول بها لعب دور تحقيق التقارب وتجسير الفجوة، فلظاهرة الاستمرارية في السياسة الخارجية العُمانية أسباب ترتبط بوجود ثوابت ومحددات رئيسة تتمثل في التاريخ والجغرافيا  والتوجه العربي، وقد أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق على هذا التوجه.

***********

يغوص سعادة الدكتور قاسم بن محمد بن سالم الصالحي سفير السلطنة لدى جهورية تركيا الصديقة، في أعماق الدبلوماسية العُمانية، في كتابه الجديد "شاهد من أهلها"، والذي تنشره "الرؤية" على حلقات في هذه المساحة.

وقد استخدم الصالحي أسلوب السرد الذاتي بما يعكس عبقرية التجربة وصدقها، موظفًا الأسلوب الأدبي الرشيق المُفعم بالعبارات الفصيحة، المُعبِّرة عن مكنون الأحداث وتفاصيلها. وتفاديًا لأي مللٍ قد يتسرَّب إلى القارئ، نجح الصالحي في توظيف عدة أدوات سردية، فتارة يُجري المؤلف- باعتباره الراوي العليم- حوارات مُباشرة ومفتوحة مع القارئ، وتارة يتنقلُ بين التقنيات الحكائية بحرفية، تطوف بنا في عوالم السيرة الذاتية.

والدكتور قاسم الصالحي، سفير وكاتب من مواليد 27 مارس 1963، تدرج في العمل الدبلوماسي، حتى وصل إلى منصب سفير، ويهوى الكتابة والتأليف، وكثير الاطلاع على الآداب بفروعها، كما إنِّه قارئ نهم، تشرب من مختلف الينابيع الفكرية.

وللصالحي مؤلفات عدة؛ من بينها: "الدبلوماسية العُمانية وتحديات العولمة"، و"زماني الجميل"، و"فكر الحوار المفتوح"، و"الذات محور التنمية"، و"سلطنة عُمان والمنظمة العالمية للتجارة.. أثر الانضمام"، و"العوامل الأساسية في تاريخ الدبلوماسية العُمانية"، و"كنت هناك".

تعليق عبر الفيس بوك