الرحمة فوق القانون والعفو عند المقدرة

 

خليفة بن عبيد المشايخي

khalifaalmashayiki@gmail.com

 

تنعم الأوطان في هذه البسيطة بالرخاء والسعادة لربما بدعوات أبنائها لها بالخير، وبرضاهم عنها وعن ما تقدمه لهم من حقوق وواجبات، وخدمات وتشريعات، ونظم وقوانين وتقدير واهتمام، واحترام ومُراعاة، إلى جانب التخطيط السليم بها وعليها، وجعل كل فرد حاضرا فيه، من حيث التفكر فيه وفي متطلباته وحاضره ومستقبله، وماذا يُريد وماذا لا يريد، وما يرغب به وما لا يرغب فيه وبه، وكيفية تحسين دخله ووضعه المعيشي والمادي والمعنوي ومكانته الاجتماعية، أقل القليل في بلده ووطنه، ذلك؛ لأنه جزء لا يتجزأ من الكل، وجزء له حق مثل الكل، وأقصد هنا المواطن البسيط العادي، إن كان هناك مثلا مواطن عادي ومواطن ممتاز.

فحينما يقال إنَّ الجميع في الدولة متساوون في الحقوق والواجبات، وأن أهمية المواطنة وهويتها الإنسانية وتحقيق طموحاتها تنبثق أولاً مما نادى به رب العزة والجلال من عدل ومساواة ورحمة وشفقة إلى غير ذلك. وكذلك ترجمة وتطبيقاً لما جاء به ديننا الإسلامي الحنيف وشريعتنا الإسلامية السمحاء التي نسترشد بهداها وبديننا المبارك العظيم المعظم في كل مفاصل وأمور حياتنا اليومية كالمعاملات والمعاشرات إلى غير ذلك.

إن تعزيز حقوق المواطن وحمايتها وتمكينه من التمتع بحقوقه وممارسة حرياته، فيه أولاً ضمان لاستقرار الفرد والأسرة، فالعائلة فالمجتمع فالسلطات بدرجاتها المُختلفة فالوطن بأسره، وثانياً أن يكون هناك تمكين للمجتمع بكل فئاته وأطيافه من العمل والإنتاج والبناء والتعمير، والمشاركة الفاعلة في مسيرة البناء والتنمية الشاملة.

وإذا ما أخذنا في الاعتبار حق الجميع في الثروات والموارد وخيرات البلد، سنجد أنَّه يجب العمل على مراعاة حق الإنسان الفقير العاجز البسيط الذي لا حول له ولا قوة، إلا قربه من الله سبحانه وتعالى، والدعاء والاعتصام به واللجوء له جلَّ جلاله.

قد يتفق معي البعض وقد يختلف معي آخرون في أنه لا يجب أن يغفل مطلقاً عن التفكر في أي فرد كان من كان، ولا يجب أن يقتصر تقديم الحقوق والاعتراف بالواجبات، بتوفير مؤسسات صحية وتعليمية وتربوية وجوانب ومجالات حياتية أخرى فقط، إذ إنَّ الأمر يجب أن يتعدى أكثر من ذلك وأكبر. فالذي يحب أن يعيش مستريحا مُنعما وفي وضع مادي مريح لا ينقصه شيء وليس محتاجا لشيء وعنده كل شيء، يجب أن يتمنى ذلك للغير، والذي عنده لأطفاله وأسرته وعائلته ما يُغنيهم عن السؤال والحاجة والفاقة وخزائنه ملأى، كذلك يجب أن يحب ذلك لغيره، فالحديث النبوي يقول: "لا يُؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

أقول صراحة.. يعد عدم التفكر والانشغال بالذي يبات جائعاً وأنت شبعان ولا تفكر به وفيه وفي أحواله وظروفه، ضربا من الجهل والغرور والبطر والفسق والكبر، ونقص الإيمان والعبادات والطاعات، أو لربما انعدامه، وأقصد هنا منسوب الإيمان ومستواه، ويعزى ذلك أيضاً إلى عدم حياة القلوب بدين الله وتنورها بالرحمة والشفقة والتواضع.

وعدم الافتقار إلى الله جلَّ جلاله، وأهم من ذلك حرمان الله تعالى لهذا وذاك من عمل الخير وحبه؛ لأنَّ هناك عباد رب العزة والجلال اختصهم بقضاء حوائج الناس، فحببهم في الخير وحبب الخير إليهم، وهم الآمنون من عذابه يوم القيامة، فمتى ما وجد هؤلاء، فالناس والمجتمعات والأمة بخير.

كذلك الذي لا يؤنبه ضميره بعدما يتسبب في تعاسة إنسان وخراب بيته وضياع أسرته وتشرد أطفاله وانحرافهم وتفكك بيته وطرده من وظيفته . وكفته تميل للاستماع لهذه وليس لذاك، أو تنفيذ كلام هذا وذاك، أو الانصياع لسين وليس لصاد، أو أنه كريم مع تاء من الناس، وقاس مع راء منهم، فمن كان هذا ديدنه ونهجه، فحتمًا عليه سخط الله والناس أجمعين.

حقيقة تعلمون أن اليوم هنالك أُسر تفتقد لعائلها وولي أمرها الذي ليس لهم بعد الله إلا هو، وهو قد مرَّ عليه شهور وسنوات محبوس من أجل مطالبات مالية عجز عن سدادها لظرف ما ولسبب ما، وإذا كان الحديث يقول كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فكيف تكون ضمائرنا بخير وفي راحة، وقد تسببنا في دمار وتشرد وضياع أطفال ونساء وبيوت، وإشاعة الفساد وغير ذلك من الأمور التي تحدث.

للأمانة أقول إنه يجب أن تكون هناك نظرة للمديونين الذين هم في السجون وعليهم مطالبات مالية، يجب الجلوس معهم على طاولة واحدة والاستماع إلى مطالبهم وملاحظاتهم، والتفكر فيهم وفي أحوالهم وأولادهم وأسرهم واحتياج الأطفال لوالدهم وكذلك الزوجات والأمهات، وإيجاد حلول مناسبة لهم، بدل الزج بهم في السجون لشهور وسنوات طويلة.

وعندما يخرجون للمهلة، فإنهم يواجهون وجهاً آخر عصيبا من وجوه الحياة، وهو كيف يدبرون المبالغ التي عليهم، فتنتهي المهلة وهم لم يتمكنوا بعد من سداد جزء من ديونهم، ليس لأنهم ممتنعين عن السداد، ولكن لأنهم معسرين، وما هي إلا أيام، ويتم إرجاعهم للسجن مرة أخرى قد تصل إلى ستة أشهر دفعة ومرة واحدة، والأسرة والأطفال كان الله في عونهم.

تتذكرون مقولة مولانا الخالد فينا السُّلطان قابوس- طيب الله ثراه- إن الرحمة فوق القانون، وتلاوة مواد القانون والنظام وتطبيقها وتنفيذها قسرًا على المعسرين دون رحمتهم ودراسة لأحوالهم أو الرأفة بهم وبأسرهم وأطفالهم، أمر فيه ظلم كبير لهم، وإن كان صاحب الحق على حق، فليس كل حق يجب أن يسترد بالذل والمهانة والاحتقار، وعدم التقدير أو عدم المُراعاة للظروف والأحوال.

إنَّ العفو عند المقدرة وأقول يجب أن نكون عافين عن الناس، رحماء بهم أيا كنا، وذلك حتى نستحق العفو من المولى عز وجل، فالسجن ليس حلاً أبدا وإنما يولد إنسانا غاضبا حاقدا.

وفي هذا المقام أتساءل كم من الأموال تكلف الحكومة على سجناء المطالبات المالية وهم في السجون، وكم من الأموال تدفعها لأسرهم، وكم من الأموال تذهب هنا وهناك في إطار سجناء الديون وما يتعلق بهم، أليس من الحكمة توفير هذه الأموال في دفع الفقر والتيسير على الناس وتحسين معيشتهم، وإنشاء هيئة تدرس وضع المديونين، وتستنبط لماذا هذا وكيف هذا، وما هي الطريقة الفلانية التي يجب ألا ندخل فيها مواطنا للسجن بسبب المال، إلى آخر هذا الكلام.

لماذا مثلا الذي عليه دين لا يستقطع من راتبه أيا كان هذا الراتب، ويمنع من السفر مثلاً ويُترك يمارس حياته مربيا لأطفاله ومحافظا عليهم وعلى بيته وأسرته؟ لماذا لا تسهل أموره بمقابلة المختص في اليوم التالي من القبض عليه للاستماع إليه وسؤاله لماذا امتنع عن الدفع مثلا بدل حبسه مدة شهرين متتالية تجدد بعد انتهائهن إلى شهرين أخريات، ثم إلى شهرين لاحقات، حتى يكمل المديون المدني والتجاري ستة أشهر مرة واحدة وهو في السجن، كذلك إعطاءه يوميًا خمس دقائق للاتصال ماذا سيفعل بهن.

كذلك لماذا لا نتبادل الأدوار معهم ونتخيل أنفسنا نحن السجناء بدلا عنهم حتى نحس بهم، ولكي نرى المعاملة التي نتلقاها هل هي حسنة وإنسانية في حقنا أم أنها سيئة، ونرى الأماكن التي يوضع بها المحبوس هل هي مقبولة لنا ولائقة أم لا؟

ختامًا.. مضى على هذا الموضوع الكثير والكثير، وإذا لم نشعر بالذين ذكرتهم وبغيرنا من الناس الضعفاء والمحتاجين والمساكين، فو الله نحن في خطر، فالله يمهل ولا يهمل، وأظن لم تنزل بنا الأوبئة والأمراض والأسقام والعاهات والمصائب، إلا لأننا نسينا حق الله في الفقراء والضعفاء والمساكين والبسطاء وسجناء المطالبات المالية، وها هو رب العزة والجلال، يعاقبنا بما نعيشه اليوم من ابتلاءات تحدث لنا بالليل والنهار، فالله المستعان على ما يفعلون.

تعليق عبر الفيس بوك