تكتلات تُعرقل الإحلال وتمكين الشباب

 

د. عبدالله باحجاج

العنوان أعلاه "تكتلات تُعرقل الإحلال وتمكين الشباب"، كشف تفاصيله عضو من أعضاء مجلس الشورى في لقاء إذاعي مع الدكتور المُعتصم المعمري، وعزز عضو آخر في لقاء مُستقل، بتداعيات هذا الانكشاف على قضية تراكم أعداد الباحثين عن عمل؛ وهي قضية لابُد أن يكون تعاطينا معها في مستوى حجمها ومخاطرها دون مجاملة؛ لأن ما حدث في عامي 2011 و2021، يجب ألا يتكرر ثالثًا، لذلك الكل سيكون مسؤولًا عن الثالثة إذا لم نكن في مستوى ثقل ووزن هذه القضية، ومن هذا المنظور الوطني الذي لن تختلف عليه الجوارح الفردية والجماعية، نتناول ما كشفه العضوان من خلفيات صاعقة.

اللقاء الأول كشف للرأي العام ما قاله العضو حرفيًا "إن هناك من يتسبب وتسبب سابقًا في عرقلة الإحلال وتمكين الشباب العُماني"؛ بل ذهب في صراحته الصاعقة إلى ما يُقربنا من تفكير وخطط المُعرقلين، فقد نقل عنهم حرفيًا الآتي: "يكفينا البحث عن مهنة حارس وسائق"، أي للعُمانيين.. هذا الكلام له أسانيده تظهر فوق السطح، وذلك من خلال عروض الشركات من الوظائف المتدنية، وآخرها ما نشرته وزارة العمل مُؤخرًا بتاريخ 4 /8 / 2021 من مهن مُتدنية، مثل عامل نظافة وسباك وتجهيز خلطات طوب أسمنتي.. والشركات بهذا لن تتنازل عن تفويت فرص عمل مُعتبرة للمواطنين، وستحتفظ بها للوافدين.

هنا التساؤل الكبير: هل دور وزارة العمل استقبال ما تمُن به الشركات من مهن ووظائف متدنية، ومن ثم إعادة عرضها على المواطنين؟ أم العمل بذكاء على انتزاع مهن ووظائف مُعتبرة؟ وللأسف في حالات يتم عرض المهن المتدنية- كما وردت من الشركات- بصورة مُستفزة جدًا، وبشروط تثير الاستياء، كمسمى زبّال، ومنصب مدير شؤون الموظفين، بشرط القراءة والكتابة، وتلك كنت سأتناولها في مقال خاص، إلا أنني عدلتُ عن ذلك بعد اعتراف مسؤول كبير بالخطأ، ووعد بالعمل على عدم تكرارها.

هل سيتم الإقبال على مثل تلكم المهن؟ الإجابة بصراحة: نعم.. وقد أوصلنا المواطن إلى العمق السيكولوجي الذي يجعله يقبل العمل في أيِّ مجال، ومع من كان؟ وفي أي مكان، ولا أحد يحاججنا هنا بشرف المهن؛ فالقضية التي نطرحها هنا مختلفة عن هذا الإسقاط، ولن نقبل حجية أن هذه المهن أفضل للمواطن من الجلوس في بيته، فمن يلوح بها، فشأنه ينطبق عليه القول "كلمة حق يُراد بها باطل" فتعداد سكاننا الصغير- مُقارنة بحجم الوظائف التي يشغلها الأجانب- يُبطل كل الحجج، وخيرات البلاد ينبغي أن تذهب إلى المواطن وليس للأجنبي.

أما عضو مجلس الشورى الآخر فقد كشف في لقاء إذاعي آخر مع المصدر الإذاعي ذاته عن ارتفاع معدل الباحثين وبصورة مُقلقة، من 2.3 إلى 4.9، وهذا الانكشاف له علاقة مباشرة بالانكشاف الأول، وهما- أي الانكشافان- لهما عدة معانٍ؛ أبرزها:

- الإشارة الواضحة إلى صعوبة استعادة سوق العمل.

- قوة "اللوبيات" قديمًا وحديثًا، وقدرتها على إفشال الإحلال، فمن هي؟ وهل هي التي كانت ترى في زيادة المرتبات عام 2011، جريمة على الاقتصاد؟

أما التداعيات فستكون كالتالي:

- تأصيل المهن المُتدنية في المجتمع، مما يخل بتوازن الطبقات الثلاث، ويتلاقى مع تداعيات السياسات المالية وما تنتجه من ضرائب ورسوم على الخدمات.. دون دراسة انعكاساتها على الاستقرار الاجتماعي.

- سيكون مشهدنا الوطني مُتناقضًا كالتالي: وافدون يشغلون المناصب القيادية، والوظائف المُعتبرة ذات الدخل المعتبر، والمواطنون في مهن متدنية.

هذه القضية تحتاج إلى تدخلات فوقية لحمل الشركات على إنجاح الإحلال وتمكين الشباب، وهي فوق قدرات السلطة التنفيذية، وبعضها قد جاءت من رحم "اللوبيات"، وكان ينبغي على أعضاء مجلس الشورى بعد أن توصل العضوان إلى هذه الانكشافات، فتح تحقيق عاجل ورفعه إلى المقام السامي، لإظهار طبيعة هذه التكتلات، وخلفياتها، وكيف نجحت سابقًا؟ وهل الارتفاع المقلق بأعداد الباحثين، يرجع إلى عرقلة الإحلال؟ والمخاطر الناجمة عن عدم نجاح الإحلال؟

يتعرض أعضاء مجلس الشورى هذه الأيام لانتقادات كبيرة من الرأي العام بصورة غير مسبوقة، وصل بالبعض إلى المُطالبة بإلغاء المجلس في ردة فعل جامحة، لم تفرق بين الأداء وإخفاقه، وبين المؤسسة كهندسة مدنية- يُفترض أن تكسر احتكار الحكومة في التشريعات والقرارات ورقابة أدائها- غرقت في الإخفاق الأدائي، ولم يظهر لها أن طبيعة مرحلتنا الوطنية تحتاج لمؤسسات أمينة ومستقلة لضمان الاستقرار والتوازن بين المصالح، وهذا ما يُعبر عنه بمصطلح "دولة المؤسسات والقانون". ويبدو أنَّ أعضاء مجلس الشورى غير مفعلين ردة فعلهم على مثل هذه القضايا الوطنية، كما إنهم عطّلوا فعلهم بإقناع أنفسهم بضعف صلاحيات المجلس، وإن كان ذلك فعلًا، أو اقتنعوا بأنهم في مرحلة قد تجمدت فيها مهمتهم الاستشارية؛ حيث نتفق بشأن إشكالية الصلاحيات، لكن، لن يقنعنا أحدٌ بمبرر السلبية في التفاعل الإيجابي والسريع كرد فعل لمُتابعة ما يظهر فوق السطح. ولنا في قضيتي تعطيل الإحلال والارتفاع المثير للقلق في أعداد الباحثين، مثالين متجددين لهذه السلبية الأدائية.. إلا إذا كان لهم تفاعلات سرية!! وحتى إن كان ذلك فأين نتائجها؟ العبرة بالنتائج دائمًا، ودونها ينبغي أن يعرف الرأي العام هذه الجهود، وما إذا كانت موجودة أصلًا، وإلا فلن يقبل منهم فقط اللقاءات الإذاعية، والمناشدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط رغم أهميتها، إلا أنها ليست وظيفتهم الأساسية التي من أجلها تم انتخابهم من الشعب.

التدخلات الفوقية ضرورية وعاجلة الآن، وإلا فإننا سنجد أنفسنا نكرر الأخطاء السابقة تحت ضغوط قضية الباحثين عن عمل، فكم سيستوعب القطاع الحكومي؟ فوزارة تعمل على إيجاد مئات الوظائف للباحثين، وخياراتها ضيقة الآن، والحديث الآن عن رقم كبير للباحثين- حوالي 112 ألف باحث- وليس كما كان يعتقد بنحو 60 ألفًا أو أكثر بقليل- وسيتزايد الرقم سنويًا؛ فالجامعات والكليات تخرِّج الآلاف سنويًا وتدفع بهم لسوق العمل.. فما الحل؟

من المُؤكد أنّه مهما بذلت وزارة العمل من جهود كبيرة لتوفير الفرص في القطاع الحكومي، فلن يكون ذلك في مستوى مواجهة التحدي الكمي للباحثين عن عمل، وستظل القضية قائمة، لذلك فالحل نجده في الحوار السياسي مع الشركات الكبيرة في البلاد- العُمانية والأجنبية- ولا يمكن الاعتماد على "الذكاء الاستوزاري" في حمل الشركات طواعية على تفويت فرص عمل مُعتبرة لشبابنا، رغم أنَّ الكثير من هذه الشركات عُمانية، فما كشف عنها شيء مخجل، ولا يُعبِّر عمّا قدمه الوطن لأصحابها طوال العقود الماضية، حتى أسسوا هذه الشركات، أو وفّر لها كل بيئات ومقومات نجاحها، والتي كان يستوجب منها طواعية التجاوب مع جهود الإحلال والتمكين.. لذلك إن التدخل الفوقي والسياسي هو الحل الناجح، وإطاره الزمني يأخذ صفة الاستعجال.