الاستعصاء العربي
د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
هبت الجماهير " ثورات الربيع العربي" وتحدت حواجز الخوف وأسقطت أنظمة حاكمة فاسدة فاشلة في دول عربية مركزية، لتخلفها "تنظيمات عقائدية" ترفع شعار "الإسلام هو الحل" لتحكم وتدير الشأن العام وفق "عقد اجتماعي" جديد، لكن (الحكام الجدد) بوصولهم السلطة، تغيروا ولم يفوا بماوعدوا به وهم في المعارضة، لم يكن عندهم خُطط للتنمية أفضل من خطط السابقين، كانوا نسخة أخرى من الحكام السابقين في الضيق بالخصوم السياسيين وقمع المعارضين، لتكتشف الجماهير، مرة أخرى، أن آمالهم خابت، والأوضاع ساءت: الأوطان أصبحت مهددة بالضياع، والهوية الوطنية والقومية للمجتمعات العربية باتت معرضة للزوال، فكان أن هبَّت لتسترد أوطانها وتسقط العقد الاجتماعي للعقائديين .
اليوم بعد سبعين سنة على انتهاء الحقبة الملكية تنتابنا الحسرة، كانت هناك آليات ديمقراطية وليدة، وأحزاباً سياسية معارضة، وصحفاً حرة، وقضاء مستقلاً، ودستوراً يكفل الحقوق والحريات ويعزز المواطنة المتساوية، ومجتمعاً مدنياً نشطاً واقتصاداً مزدهراً وصناعات متقدمة وحرفاً ومهناً، كانت مجتمعاتنا مجتمعات منتجة تعتمد على النشاط الاقتصادي لأبنائها لا على الريع والمساعدات الخارجية "اقتصاديات الدول العربية اليوم : اقتصاد ريع، أو اقتصاد تسول على الريع".
كان هناك مناخاً ليبرالياً أنتج فكراً نقدياً مبدعاً: أدباً وفناً باقياً، جامعات الحقبة الملكية لعبت دوراً فاعلاً في تطور مجتمعاتها وفِي تطور الفكر العربي، ونحن لازلنا عالة على مخلفات هذا الفكر .
جربنا أنماطاً من الحكم: الملكي الوراثي، الجمهوري الديمقراطي، جربنا حكم القوميين: الناصريين والبعثيين، حكم العقائديين: الإسلاميين والاشتراكيين والشيوعيين، ولم نلحق بالمزدهرين ووصلنا اليوم إلى الاستنجاد بـ"المستبد المصلح".
معضلة الحكم العربي، معضلة لم تحل منذ مقولة الشهرستاني في "الملل وَالنَّخْل" أول سيف سُل في الإسلام كان من أجل الخلافة وإلى اليوم، بينما شعوب وأمم أخرى كانت ترزح تحت وطأة أسوأ أنواع الحكم الاستبدادي تمكنت من التجاوز والوصول إلى توافق مجتمعي أنتج صيغة ديمقراطية متوافقة مع ثقافتها الاحتماعية، وحدهم العرب لم يتمكنوا من التجاوز والتوافق! وهذا يطرح تساؤلاً يشكل تحدياً: لماذا الاستعصاء العربي؟!
هناك من يختزل الإجابة في كلمة واحدة "النفط" لقد فعل النفط بالعرب الأعاجيب لكنهم أصبحوا عالة على ريعه متكلين عليه في كافة مقومات حياتهم، قضى النفط على الجهد الإنساني للفرد العربي فأصبح أسيراً لعوائده، وما دام الريع النفطي باقياً والاتكال عليه مستمراً، لن يتغير حالنا ولن يتطور فكرنا، سنظل مغتبطين بمسلماتنا الثقافية الموروثة. لن تتحقق الإصلاحات المنشودة.
لن يتغير حالنا إلا إذا اتكلنا على أنفسنا وكففنا عن اتهام غيرنا، الخطاب الآيدلوجي العربي يرفض تحمل مسؤولية أوجاعنا ويلقي باللوم على الغرب وأمريكا وإسرائيل لكنه لا يقف وقفة مراجعة للذات لمعرفة مكمن الخلل في الفكر والثقافة والتعليم والبنية المجتمعية.
لن يتقدم العرب إلا إذا انتقدوا أنفسهم وموروثهم التراثي وتاريخهم انتقاداً جذرياً وتحملوا شجاعة الاعتراف بأخطائهم سواء تجاه بعضهم بعضاً أو تجاه غيرهم طبقاً لقوله تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم"- "وما أصابك من سيئة فمن نفسك"- "إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
لن نتغير إلا بإعلان "القطيعة المعرفية" مع المُسلمات الثقافية الموهومة، وفككنا مفاهيم مغلوطة سائدة حول "الجهاد" و"الولاء والبراء" و"الفرقة الناجية" و"احتكار الجنة" و"تآمر الأمم علينا" و"الغزو الثقافي" و"العلاقة بين الدين والدولة" و"الحاكمية" و"تطبيق الشريعة" و"الخلافة" و"الهوية الوطنية".
لن نُغادر ما نشكو منه إلا إذا فهمنا ديننا فهماً مستنيراً متقدماً على ضوء معطيات العصر وثقافة حقوق الإنسان وقبول الآخر، وصححنا نظرتنا للمرأة .
سيستمر الاستعصاء العربي مادام خطابنا الإعلامي يُغذي ناشئتنا كراهية "الغرب" ونحن بحاجة إلى علومه ومعارفه ونظمه الإدارية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وإنجازاته العلمية والتقنية.
** كاتب قطري