كلمة!

 

فاطمة بنت إسماعيل اليمانية

 

"الكلمة التي لا تُقَال مخيفة جدا، ولا تدري بأيّ لغة ستأتي!" محمد الرّطيان.

******

لا أحد يعي كيف يتمكن المرء من التعايش مع وحدته؟ هواجسه؟ مخاوفه؟ أحلامه المتبخرة فوق قمّة رأسه؟ نظراته البلهاء للآخرين وقطار الحياة فاته بعد أن قذف به في المنحدر؟!

ولم يشاهده أحد ليساعده على لملمة حطامه؟! فيزحف على بطنه، وقدميه ليلتقط قلبه الممزق ويعيده في جسده متعذرا بأنّه ما زال:

  • صالح للاستعمال!
  • والصدأ؟
  • بعضهم يشرب الماء في أكواب صدئه!

وبعضهم يتجرع مرارات أيامه وعمره وشعوره بالغثيان من كلمة اشتهى سماعها كثيرًا، ومدّ ذراع قلبه متسولا للحبّ.. فلم يعثر إلّا على:

  • ابتزاز؟
  • مساومة؟
  • سخرية تحوله إلى أشلاء مُتطايرة!

ليعود بِخُفَي حُنين إلى عزلته مذهولا من إبداع العرب في وصف الخيبة على مقاس خُفّي حُنين؟ وليشاهد مقاس قدمه متسائلاً:

  • أيُّ الخُفّين أكبر؟
  • أو القدمين؟
  • أو الخيبتين؟

أيهما أكبر وأشدّ إيلاما؟ يوم قالوا له بأنّك جئتَ في الزمن الخطأ إلى المكان الخطأ؟ فنفخ أوداجه محدّقا في المرآة، محاولا إرغامها على أن تظهره في مظهر أجمل درجتين! أطول درجتين؟! أكثر رشاقة برطلين؟! المهم أن تكون المسافة بينه وبين أي شيء يشعر به مقدارين!

إلّا الوجع الذي انهال عليه كسيل بلّل عروقه، وأغرقها، فوقف أمام أوجاعه وجها لوجه، صارخا بها:

  • هل من مزيد؟!

ليعتزل الحياة، منفردا كئيباً في غرفة صغيرة استأجرها بمبلغ زهيد من رجل خطفه السرطان؛ فعفى أبناؤه عن الإيجار كصدقة جارية عن روح والدهم المرحوم.

وعندما علم بعض العمال ذلك، ذهبوا للأبناء ليشغلوا بقية الغرف المجّانية؛ فرّحبوا بهم..

سمع أصوات غناء وأهازيج قديمة، ذكّرته بأهازيج والده الذي مات وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، ولم يكن يتذكر منه شيئا سوى طيفه، وأهازيج كان يترنم بها بصوت رخيم، يسري في أوردته، وينعش روحه.

فتح باب غرفته فرأى شابّين يبدو من هيئتهما أنّهما لم يتجاوزا منتصف العشرين، سلّما عليه، وعرّفاه باسميهما؛ فردّ محاولاً تذكر اسمه:

  • س.. سالم!
  • والنعم!

اكتفى بالتحديق والصمت؛ فمنذ وفاة والدته لم يتحدث مع أحد! واعتقد بأنّه نسي الكلام!

شعرا تجاهه بالشفقة حين لاحظا ارتباكه، والتجاعيد التي تعلو وجهه.. وتسلل إليهما شعور بأنّه متعاط مخدرات، أو لصّ هارب، أو أنّه يعاني من شيء ما، ثم خرجا من باب المنزل الرئيسي؛ لإنزال بقية الأثاث الذي أحضراه معهما.

عاد إلى غرفته مكتفٍ بالنظر إليهم من نافذته، ولا يعرف لماذا لم يشمّر عن ساعديه كما كان يفعل والده – رحمه الله- أو لم تدفعه أخلاق النشامى التي يفترض أنّها تسللت إلى جيناته من والده الشهم النَشمي كما كانوا يصفونه في الحارة!

  • ما الذي شوّه قيم الحياة في قلبه؟
  • أو.. من؟!
  • ربما موقف صادم، أو نظرة احتقار!

أو كلمة أطلقتها عليه والدته كرصاصة استقرّت في منتصف جبهته، قتلت في داخله الرغبة في الحياة بعد وفاة والده، فلم تستطع التعايش مع المجتمع الذي اعتقدت أنّه سينظر إليها باضطّهاد؛ لأنّها أرملة قابلة للاستغلال!

هكذا كانت تنظر إلى الآخرين حين تخلّى عنها الجميع وانشغلوا بحياتهم؛ فتبادر إلى ذهنها أنّها في وضع مختلف، أو كانت كذلك! خاصّة عندما قالت لها أكثر من واحدة:

  • كوني حذرة! فنظرة المجتمع لا ترحم!

وبالتالي سرّبت هذا الشعور إلى ابنها:

  • أنتَ يتيم.. هل تعرف معنى أن تكون يتيمًا في هذا الزمن؟!

فعاش منعزلا خشية استغلاله والسخرية منه! بل اقتنع تماماً بأنّ الآخرين سينهشون لحمه، وسيقدّمونه قربانا لأهوائهم ومصالحهم، فلا أب معه يستند عليه، أو يحسب الآخرون لوجوده ألف حساب، وسيُضرب ويُدمى ويعاقب ولن يهتموا إذا كان مخطئاً أو على صواب!

  • هذا المجتمع المفترس!

لذلك أحاطت نفسها وابنها بقيود صارمة؛ فكانت لا تخرج من المنزل إلّا لشراء أغراض المنزل من أقرب بقالة، وتختار أوقات الهدوء خشية الأنظار، بينما حصرت خطواته بين البيت والمدرسة التي يعود منها وقد تلقّى جرعات كافية من الكلمات المُؤلمة والنظرات الأكثر إيلاما؛ فهو مهمل، لا يجيد القراءة، ولا الكتابة، بل كان ضعيفاً في كلّ المواد الدراسية، ولم يكن يتجاوب مع محاولة المُعلمين تحسين مستواه التحصيلي، وكانت خطابات إدارة المدرسة للأمّ لا تغني ولا تسمن من جوع!

ماتت أمّه وهو على مشارف الأربعين، ولم يستطع البقاء في المنزل؛ فأوصد أبواب المنزل القديم؛ ليستقر في غرفة صغيرة بعيداً عن كل ما يربطه بالماضي.

بلا عائلة، وبلا جماعة ينتمي إليهم، متكيفًا مع وضعه الجديد، ومكتفياً بمبلغ بسيط في حساب والدته في البنك، كان كل ما ادّخرت من راتب الضمان الاجتماعي؛ ليغلق حساب والدته المتوفاة ويضع المبلغ في حسابه، مع ما يتبقى من راتبه البسيط، بعد أن أثار شفقة أحد الموسرين؛ فألحقه بعمال المصنع الذي يمتلكه رأفة به، ورغم ما تظهر على ملامحه من سمات البؤس والوجوم، لكنّه كان ينجز كل ما يطلب منه بهدوء، ولم يحدث أن تذمر أو اشتكى من ساعات العمل الطويلة.

سمع طرقات على الباب، كان أحد الشابّين:

  • عمي.. تفضل غداءك!

تلعثم، وتناول الطبق، ثم شكره قبل مُغادرة الشاب إلى غرفته، وهو متأكد تماماً بأنّ هذا الرجل يحتاج إلى معجزة تنتشله مما هو فيه.

وفي المساء أعادا الطرق مرّة ثانية، وقدّما له وجبة العشاء..

كانا كريمين معه؛ فشعر بالألفة تجاههما؛ بل تكيف على وجودهما.. وتذكر الكثير من الكلمات والجمل، واكتشف أنّه يستطيع الضحك.

وانسجم مع أحاديثهما الطريفة المُمتعة، وخفّة دمهما التي تظهر في أبسط المواقف اليومية التي تقع أنظاره عليها، حين يرتطم أحدهم بالباب، أو يسقط صينية الطعام على الأرض، أو يتزحلق أثناء غسل باحة المنزل؛ فجميعها أمور تجلب السعادة والضحك والمرح.

وأكثر ما راقه وغمر روحه بالطمأنينة؛ شعورهما المستمر بالرضا وكأنّهما يعملان في أهمّ مؤسسة في الوجود، وليسا مجرد عاملين بسيطين في أحد مصانع المواد الغذائية.

مرّ شهر منذ قدومهما إلى المنزل، وها هو يستيقظ باكرا منشرحاً للذهاب للعمل في المصنع، ويعودون آخر النهار ملتزمين بخطّة وضعوها للطهي وتنظيف باحة المنزل وسقي المزروعات..

وفي نهاية كل أسبوع كانا يطلبان منه مرافقتهما إلى منزل العائلة، وشعر كأنّه جزءٌ منهم، واتّسع نطاق حياته؛ ليتابع آخر الأخبار، ويجيد التعامل مع الهواتف الذكية، ويلتقط صورا بنفسه، ويرسل مقاطع صوتية؛ بل تطور الأمر لديه ليفكر في تكوين أسرة صغيرة بعد أن لفتت أنظاره إحدى العاملات في المصنع، حين وقفت أمامه تقول له:

  • عمّي.. ضع العلب في الصندوق بهذه الطريقة، الرسم للأسفل، والكتابة للأعلى.
  • لم أنتبه!

ثم عادت إلى مكانها، وعاد إلى المنزل برفقة الشابّين والابتسامة تعلو وجهه طوال الطريق، ولم يلتفت إلى نظرات الدهشة التي طغت على وجه الشابّين وهما يحدّقان في ابتسامته الحالمة.

  • وصلنا.

ظلّ طوال اليوم مبتسماً، ليس فقط للشعور الذي تولد في قلبه تجاه الفتاة؛ بل لإدراكه أنّ في هذه الحياة.. ما يستحق الحياة.

 

(النهاية)

 

 

تعليق عبر الفيس بوك