حروب المياه القادمة بين العرب وجيرانهم

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

كثرت التكهنات والتنبؤات الصادرة عن مراكز الدراسات الغربية منذ منتصف العقد المنصرم والتي تؤكد بما لايدع مجالًا للشك بأن حروب الشرق الأوسط القادمة سوف تكون حول السيطرة على مصادر المياه نظرًا لوجود نقص وندرة في هذه المنطقة.

كما إن عجزَ معظم الحكومات العربية عن القدرة على توفير ما يُعرف بالعناصر الثلاثة للحياة والاستقرار، والمتمثلة في الماء والخبز لا طعام الفقراء والأكسجين النقي بسبب الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي وانتشار ثاني أكسيد الكربون في العواصم العربية؛ إذ إنَّ هذه هي المنهجية التي يقاس بها أداء الدول الناجحة. يضاف إلى ذلك زيادة عدد السكان الذين يستهلكون كميات كبيرة من المياه، والتي قد تصل إلى 10 بالمائة سنويًا. كما إن المشاريع التنموية التي تشهدها البلدان العربية منذ عقود قد أخذت نصيب الأسد من حصص المياه التي كانت تخصص للاستهلال اليومي والزراعي؛ وفي المقابل هناك إفراط زائد في أنماط استهلاك المياه التي في الأساس قليلة وغير متجددة في العديد من الدول العربية. وكانت وكالة المخابرات الأمريكية "CIA" قد حددت في أحد تقاريرها السرية المناطق المرشحة لحدوث صدام عسكري مُسلح بين دولها عاجلا أم آجلًا؛ بسبب شح المياه لديها وهي الدول المعروفة جغرافيا بحـــوض نهر النيل، بينما تشمل المجموعة الثانية؛ تركيا والكيان الإسرائيلي من طرف ودول الشام والعراق من طرف آخر.

وهناك من يعتقد أن السبب الذي جعل جيران العرب يستحوذون على الحصص المخصصة لهم هو ضعف الحكومات العربية وتشرذم المسيطر على العرب وعدم نجاحهم في توحيد صفوفهم. لا شك أن الأمن المائي من أهم مقومات الحياة ليس فقط للبشر؛ بل ولجميع الكائنات الحية في هذا الكون. فقد قال الله تعالى في محكم كتابه الحكيم: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فمن هنا تأتي احتياجاتنا الضرورية لمياه الشرب والنظافة وللمشاريع التنموية المختلفة كالصناعة والزراعة. فندرة المياه لم تكن جديدة علينا في بلاد العرب ذات المناخ الصحراوي، خاصة دول الخليج والجزيرة العربية. فقد بدأت دولة الكويت تحلية مياه البحر واستخدامها للشرب منذ منتصف خمسينيات القرن الفائت، ثم تبعتها بقية دول المنطقة. وتكمن صراعات المياه والاختلاف على توزيع الحصص بين العرب وجيرانهم من دول المنبع؛ لكون معظم الأنهار التي تجري في البلدان العربية تأتي من خارج ديار العرب؛ فمن تركيا يأتي نهرا دجلة والفرات اللذان يمران في الأراضي السورية ثم يعبران إلى العراق ليلتقيا عند شط العرب. فمنذ سبعينيات القرن الماضي ظهرت الخلافات للمرة الأولى بين العراق وتركيا حول إقامة بعض السدود على ضفاف نهر الفرات في الأراضي التركية وأكبر هذه السدود سد "التاتورك"؛ إذ هناك من توقع حدوث صدام مسلح بين الدولتين حول مياه الفرات في ذلك الوقت، ثم ظهرت خلافات بين العراق وسوريا، إذ قامت الأخيرة ببناء سد "الثورة" مما كاد أن يشعل مواجهات عسكرية بين القطرين العربيين حول كمية المياه التي تصل إلى دولة المصب العراق. ونتيجة الحروب الطاحنة في العراق وسوريا منذ سنوات طويلة، وكذلك التغييرات المناخية وقلة الأمطار في المنطقة، هناك من يتهم الجار التركي بالاستحواذ على المياه لسد احتياجاته المتزايدة في الزراعة والصناعة؛ إذ يقول المواطنون في سوريا والعراق إن نهر الفرات قد تراجع بحوالي 50 في المئة من منسوب المياه المعتاد والمتفق عليه والمتدفق من تركيا إلى جيرانها العرب، وذلك منذ بداية هذا الصيف 2021، مما ينذر بكارثة على المعتمدين على هذه المياه في الدولتين (العراق وسوريا)، بينما تشترك إسرائيل بقوة الأمر الواقع والاحتلال مع جيرانها العرب في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان بأنهار (الأردن واليرموك والليطاني والحاصباني والوزان). ويسيطر هذا الكيان المحتل على مصادر المياه الفلسطينية بشكل كامل، فتشير الإحصائيات بأن إسرائيل تستنفد أكثر من 86 بالمائة من إجمالي المياه الفلسطينية الجوفية والسطحية المتمثلة في نهر الأردن.

أما دولتا المصب لنهر النيل مصر والسودان اللتان تعتمدان على موارد مياه متدفقة من إثيوبيا ومن منطقة أعالي النيل في هضبة البحيرات في وسط إفريقيا؛ فلم تكونا أكثر حظا؛ بل المواجهات على أشدها بين مصر والسودان من طرف وإثيوبيا وحلفائها من الإسرائيليين والأفارقة من طرف آخر. فقيام إثيوبيا بتشييد سد النهضة على الحدود السودانية ومحاولة تعبئة السد للمرة الثانية دون الاتفاق مع دولتي المصب قد ينذر بحرب قادمة لا محالة، فمصر تصف السد الأثيوبي الجديد بالتهديد الوجودي لها؛ لأنها تعتمد بشكل كامل على مياه نهر النيل في تلبية أكثر من 95 بالمائة من احتياجاتها المائية الأساسية؛ حيث تحصل مصر سنويًا على حصة تقدر بأكثر من 55 مليار متر مكعب من مياه هذا النهر الذي يشكل شريان الحياة لها، وذلك حسب الاتفاقيات المُبرمة مع دول المنبع في القرن المنصرم، بينما تعتمد جمهورية السودان على نهر النيل بنسبة 54% فقط ذلك باعتبار أنَّ لديها أنهارًا أخرى وكمية أمطار أكبر وعدد سكان أقل، لكن سد النهضة الذي لا يبعد أكثر من ثلاثين كيلومترا عن الحدود السودانية، يشكل هاجسًا وخطرًا على المواطنين السودانيين القاطنين في المنطقة؛ خاصة لو سمح الله وحصل انفجار في السد بسبب زلزال أو فيضانات أو تعرض للاستهداف من مصر مثلاً؛ فالتقديرات تشير إلى تهديد مباشر ومدمر لحوالي عشرين مليون سوداني على ضفاف النهر.

صحيحٌ أن إثيوبيا تقول إن سد النهضة يهدف بالدرجة الأولى إلى توليد وإنتاج الطاقة الكهربائية لملايين المنازل الذين يعانون من عدم وجود تيار كهربائي في هذا البلد الإفريقي الذي يتجاوز سكانه أكثر من 100 مليون نسمة؛ لهذا تهدف إثيوبيا خلال السنوات القادمة إلى تعبئة خزان السد بأكثر من 74 مليار متر مكعب من المياه، ونتيجة لهذه الكمية الكبيرة من المتوقع أن تخسر مصر 43 مليار متر مكعب من 55 مليار إجمالي حصتها الحالية، وبالتالي فإنَّ الأراضي الزراعية مهددة بالتراجع بنسبة تصل إلى 72 بالمائة، وهذه كارثة بكل المقاييس بالنسبة للمحاصيل الزراعية في هذا البلد المعروف "مصر هبة النيل".

محليًا.. تصنف السلطنة من دول ما يُعرف ببلدان "الفقر المائي"؛ إذ يأتي ترتيبها في المركز العاشر بين 20 دولة عربية من حيث ندرة المياه؛ من هنا اعتمدت البلاد لتوفير احتياجاتها من المياه على تحلية مياه البحر بنسبة تصل إلى أكثر من 80 بالمائة بينما يتم استخراج 14 بالمائة من الآبار والاحتفاظ بمعظم المياه الجوفية والسطحية كاحتياط استراتيجي يتم استخدامه في الحالات الطارئة فقط.

لا شك أن تحلية مياه البحر مكلفة وكذلك تعمل على تلوث البيئة البحرية، فضلاً عن المخاطر المستقبلية المتمثلة بالتلوث النووي الذي قد يحصل في المستقبل بفعل فاعل بسبب التخريب أو الحروب.

في الختام.. لقد حان الوقت للجهات المختصة بقطاع موارد المياه في هذا البلد العزيز بالتعجيل ببناء سد وادي دربات في محافظة ظفار بأسرع وقت ممكن، وذلك للاستفادة من المياه المفقودة والمتدفقة للبحر منذ عدة سنوات. كما إن تكملة مشروع مد الأنابيب وتجهيز الخزانات الخاصة بمياه سد وادي ضيقة بقريات، والذي يعد واحدًا من أكبر السدود في الجزيرة العربية، وتبلغ طاقته الاستيعابية 100 مليون متر مكعب، أصبح من ضروريات المرحلة القادمة لرفد مياه الشرب في محافظة مسقط.

الأكثر قراءة