د. عبدالله باحجاج
في ملف الباحثين عن عمل في بلادنا، مجموعة قصص كبيرة، تحمل الصفة الإنسانية الخالصة، والسيناريو الدرامي الحزين، كالباحثين في سن الأربعين من عمرهم، وممن يشارفون على هذا السن، وهو يفترض أن يكون سن النضوج الفكري، ومحطة الاستقرار، ويمكننا تخيل مُعاناتهم في هذا السن، وربما تحولات البعض منهم، وهم يعيشون الآن تحت ضغوط مالية وسيكولوجية معًا، وفق انسداد الحصول على فرص عمل، بحكم سنهم من جهة، وبحكم مؤهلاتهم من جهة ثانية، وهم ضحايا إخفاق سياسات التوظيف والتشغيل والتعمين السابقة.
وقد التقى بي عددٌ منهم مؤخرا، قلة منهم تحمل شهادة جامعية، بينما الأغلبية تحمل شهادة دبلوم التعليم العام وما دونه، وبعضهم متزوج، وقد انتكست حالتهم بعد ما كانوا يعتمدون على مؤسسات آبائهم الصغيرة والمتوسطة التي أصابتها تداعيات كورونا. حديثهم معي كله آلام قهرية، ونظرة سوداوية عن حاضرهم ومستقبلهم، وحائرون كيف يدبرون شؤون أسرهم؟ ومن أين؟ وهنا الخطورة المتخيلة التي قد تدفع بهم إلى المجهول تحت هذه الضغوطات القاهرة.
حاولت الحصول على عدد الباحثين عن عمل ممن بلغوا سن 35 فما فوق 40 سنة، فلم أجد، فهل تملك المؤسسات الحكومية المعلومات التشخيصية عن بيانات الباحثين عن عمل، كعدد من وصولوا لهذه السن، ومن يشارفون عليها؟ مثل هذه التفاصيل تدل على الكثير من الاعتبارات المعيارية لقياس مستويات الأداء ونجاعتها، وتكشف لنا في المقابل عن طبيعة الفكر المؤطر لقضية الباحثين عن عمل، وهل تجاوزنا الاعتيادية أم لا نزال غارقين فيها؟! ونتمنى من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أن ينشر إحصائية عن أعدادهم، وطبيعة مؤهلاتهم، وعددهم في كل محافظة من محافظات البلاد، لعله يؤثر في صناعة قرار عاجل لهذه الفئة ليس على حساب الحقوق العامة المعروضة، وإنما استحداث حقوق استثنائية خاصة لهم لاعتبارات السن، وتقادم عليهم استحقاقات الكثير إن لم يكن معظم فرص العمل.
ومهما يكن، فإنه لا بُد من البحث عن حل فوري لهذه الفئة، نراه في إيجاد آلية اللامركزية في كل محافظة من محافظات البلاد، وذلك عن طريق نظام المحافظات بعد أن أُسند لكل محافظ صلاحيات ترتقي للحكم المحلي، لو فعلت، وكذلك إشرافه ومسؤولياته عن المؤسسات المركزية واللامركزية التي تقع ضمن نطاق المحافظة الترابية، على أن يشكل في كل محافظة لجنة برئاسة المحافظ، وعضوية الفاعلين المستقلين والحكوميين والرسمين المعنيين بملف التشغيل.
مثلًا محافظة ظفار، فبعد معرفة عدد الباحثين المستهدفين فيها، تُشكَّل اللجنة بعضوية ممثلي الشورى والدولة والبلدي عن ظفار، وكذلك المديريات الحكومية، وممثلين عن الشركات الخاصة في المحافظة، هدفها التفكير المشترك في استحداث وظائف عاجلة لتشغيل هذه الفئة، ويكون للمحافظات التي لا توجد فيها مشاريع اقتصادية كبيرة وكثيرة بحكم موقعها وطبيعة جغرافيتها، حصة من فرص عمل المحافظات، توزع بالتنسيق بين المركزية واللامركزية.
وقد تقودنا هذه التجربة "تجربة اللامركزية" إلى استكشاف وتشغيل الباحثين ممن بلغوا أو شارفوا سن الأربعين- في حالة نجاحها- إلى تطويرها وتعميمها لتشمل كامل ملف الباحثين عن عمل، وذلك لديناميكيتها وأهدافها الاستراتيجية من المنظور الوطني؛ لأنها تحتوي ملف الباحثين إقليمياً في التطبيق، ومركزيًا في التوجيه والتشريع، ومناطقيًا في تقسيم فرص العمل، كما إنها تُشرك كل الفاعلين والفعاليات في قضية الشباب الأولى.
وستسحب هذه الآلية ملف التشغيل من أية احتقانات عامة إذا ما تجددت، وحتى لو تجددت- لا قدر الله- تكون على نطاق ترابي محدود، وقد لا تكون؛ لأن الإدارة الإقليمية لملف الباحثين عن عمل، لن تكون مغلقة إقليميًا، وإنما منفتحة على مجموع التراب الوطني- وفق ما سبق ذكره- كما لن تكون منعزلة عن المركزية، فهي موجودة تشريعًا وأطرًا وكوادرَ في مؤسساتها الإقليمية المنتشرة في كل المحافظات.
صحيح أن القانون أصبح يسمح لمن بلغ سن الأربعين بالتسجيل في قوائم الباحثين عن عمل، ونظريًا هم ضمن قوائم الباحثين رغم أن البعض منهم يواجه إشكاليات في التسجيل، لكن، ورغم ذلك، هناك الكثير من الجهات الحكومية والعسكرية تشترط عامل السن لطبيعة الوظائف والمهن، وهذه شروط استحقاقية، لا يمكن المطالبة بتجاوزها؛ لأنها قائمة على سن مُعين تعتمد عليه المؤسسات في تأهيل وتأسيس كوادرها لآجال زمنية طويلة لديمومة عملها.
من هنا.. تأتي أهمية مقترحنا، بإدارة خاصة واستثنائية لهذه الفئة بالتنسيق مع المركزية، وجعلها تستكشف فرص العمل من داخل حيزها الترابي، وتحاول أن تقنع الشركات الكبيرة فيها بتوظيفهم استثناء من فرص العمل المتوفرة عندها، وهذه الاستثنائية- كما أوضحنا سابقا- لن تكون على حساب حقوق الباحثين عن عمل المعروضة والمخطط لها؛ لأن المعاناة والحاجة للعمل، ليست خالصة في السن المرتفع، وإنما أصبحت حالة يشترك فيها كل الباحثين عن عمل الذين ينتظرونها بفارغ الصبر، وعليهم أعباء ثقيلة، وأعمارهم تجري بسرعة فائقة نحو سن اليأس في الوظيفة.
لذلك نطالب بالاستثناءات التي تستحدث فرص عمل إضافية وفق الآلية المقترحة سابقًا، وإلا، فما هو الحل؟! لا يمكن الرهان على المركزية في كل شيء، ولننفتح على اللامركزية، فهي الحل في مرحلة التحولات الكبرى في مفهوم الدولة الجديد في بلادنا.