كسر المألوف

 

فاطمة الحارثية

ليس بعيدًا عن أيٍّ منِّا، أن نأتي في أحاديثنا بإيحاءات ومخارج صوتية ولغوية، صقلها معتقد فكرنا أو بيئتنا أو طبيعة عملنا أو علمنا أو شعورنا أو حتى تقليد لشخص أو مجتمع ما، في المقابل، إيجابية أو سلبية أو ثقافة المتلقي تصنع انطباعه حول قصد المتحدث، وما إذا كان المتحدث في حالة تشدق، أم تلقائية حكمة تلك النغمات ومخرجات أقواله وأفعاله؛ لا توجد أفضلية بين علوم الناس، وإن تساوت مصادر التعلم والمناهج، لأن علم الفرد يحكمه الفهم والاستخلاص وليس مقدار أو نوع ما تلقاه أو اختبره.

إن الغالب في الناس أنهم في حالة التفاوض أو الإقناع أو التأثير، يُنهك الفرد نفسه بالبيانات والمفردات والإثباتات، وهذا قد يقوده أحياناً إلى الحيد أو الانجراف عن أصل المسألة، فيأتي بنتائج مختلفة، قد تمضي دون أثر وقد تأتي بالويلات، بالتالي وجب استشراف النتائج بمنهجية فكرية، واستراتيجية مرحلية تستطيع احتواء البداية، بمرونة تحاكي أفضل مما بُنّي من أجله، مع تصور للاحتمالات وآلية ردم الفجوات، وفهم العقبات بفكر واقعي وعلمي يدعمه الخيال لكن لا يحكمه، وهذا لا يُحرم التجريب، لأنَّ العاقل يضع مقاييس الموازنة في حالة التجريب، مما يُقلل من الإخفاق ويرفع نسب النجاح، وجب عدم قيد أنفسنا بنتائج محددة، بل فتح آفاق الأداء دون الخوف من فقد السيطرة، لنستحوذ وننال أكبر أثر ممكن كنتائج أو مخرجات.

أستطيع القول إن المألوف هو الدارج، أي أقرب ما يكون إلى دائرة الأمان والكسل والرتابة، البعض يقدم ويُؤخر في "نطاق ما" ثم يقول عنه تغيير أو إبداع، والبعض الآخر يدعي أنه لا يجب أن تأتي بما قد يُزعج حالة الناس، أو يقلقل وضعهم، من بالفعل يثير دهشتي، هم من يرون أن الإنسان قد استهلك كل الأفكار الممكنة، بالتالي الإبداع أو الابتكار في زمننا يكمن في تقليد أو إعادة "عمل ما" من أصل ما في زمن مضى؛ ونرى أيضا في دائرة "المألوف" استمرار هيمنة فكر أن الجديد هو من فعل الشباب والدماء اليافعة، لن أسرد عليكم لائحة أسباب هذا المعتقد، لأنها تطول ولأننا نعلمها جميعًا، وأضف عليها خبايا نوايا السلطة فيه، وبالرغم من أصوات المعترضين والرفض مازال العرض "المألوف" مستمرا؛ تأمل معي أسماء المخترعين والعلماء والمبتكرين في مقارنة مع أعمارهم عندما استطاع عملهم نفع الأمم، لا أحتاج إلى قول المزيد.

لنعقد مقارنة بسيطة بين دول ظهرت في الوقت ذاته، وبنفس الظروف والإمكانيات، أو ربما أسوأ أو محدودة، لنجد فرق النتائج وتبايُنها اليوم عظيمة ومُهيبة، بلغ بعض تلك الدول عنان الكون في الإعمار والعلوم، حتى أن البعض وصل القمر والمريخ، ودول مازالت في تخبط حول دائرة البنية التحتية، والتأسيس وتجديد الاستراتيجيات والرؤى، الفئة الأولى رأت وعاشت القادم من الزمن وركزت على البناء، في توازن مع رخاء الناس، الفئة الثانية ركزت على السلطة والسيطرة على الناس، وصناعة أفضل الطرق للإبقاء على المألوف بحجج كثيرة، أيضًا لن أسردها عليكم لأنكم تعلمونها.

الأنا في معركة التطور والقيادة، أو لنقل تيه الأنا في معركة القيادة والتطور، والمعنى يختلف في جوهره ونتائجه بكل تأكيد، فتقديم التطور على القيادة، لا يأتي بنفس نتائج تقديم القيادة على التطور، إن الحكمة والنجاح لا يحكمها العمر بل الإقبال على الحياة، دون التأثر بالخوف أو سكرة الطموح أو فخ الطمع أو سلام المألوف، هو وعي الاختلاف في درجات الفهم بين بعضنا البعض، والقدرة على تحويل الأفكار إلى واقع حي ينفع الناس، هو عدم السماح لريبة أو تردد، أو حدود خيال الجموع "وهم الأغلبية" وإنكارهم، في التأثير على المتابعة والعمل. ما الخطأ في أن أدعم فكرا مجهولا لي أو فكرا مختلفا لم آلفه؟ معضلة التفكير السلبي والشك قصم ظهر الحياة بكل قوة، إن عدد من صنعوا الابتكار والتطوير في حياتنا الآن قليل جدا، ولي أن أقول أن كلهم تم محاربتهم، واجتهد مجتمعهم وبيئتهم في قمع فكرهم ووجودهم، كلنا نعتقد أننا مميزون، أو أننا نمتلك ما لا يملكه غيرنا، أعد النظر إلى الأمر فالخيال جميل جدا لكننا نعيش الواقع، فهل تميزك صنع خيرا واقعيا أم في رأسك فقط، ولم يصل أبعد من خيلائك بين الناس، كلنا "أنا أستطيع، لكن"، كم منا "فعل"، ولا أتحدث عن نتائج لمست الواقع الذي نعيشه وقد يرحل برحيل صانعه، بل "فعل" تشبث به الناس في معاشهم وحياتهم كأساس باقٍ لا يُستغنى عنه، يُكمل مسيرته واستمرارهم.

سمو...

أن تُفسر الأمور، هو شأن المفسر، ولا يرتد عليك إلا إذا أتى بعده فعل، تأمل:

 "المقارنة" في رد الملائكة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".

 "المقارنة" في رد إبليس: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا" وفي رده: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ"، والمُقارنة التي عقدها قابيل مع هابيل، وصاحب الجنتين، وغيرهم يطول ذكرهم، أي ولدت "الأنا" من رحم خطيئة المقارنة، وعندما تبعها "فعل" أصبح الإثم عظيما أوجب العقاب.