داءُ البيروقراطية ومعنى الترشيق..!

 

د. صالح الفهدي

 

تحوَّل الدواءُ الذي كانَ يُرجى به العلاج إلى داءٍ يسمِّمُ جسدَ المريض، وقد كان يُفترضُ بالبيروقراطية أن تكون علاجاً وليس داءً، لكنَّ العلاجَ تحوَّل إلى داءٍ لأنَّ مفاهيمه العُليا قد عُكست في التطبيق حينما اقترن ببطءِ الإجراءات، وعسر الحصول على الخدمات والمصالح. البيروقراطية في حقيقتها تقوم على أُسسٍ ثلاثة هي:

الأول: فصل المنصب أو الصفة عن الشخص المسندة إليه: بمعنى أن الشخص عابر والصفة والمنصب والصلاحيات المتعلقة بهما، مستمرة استمرار الدولة نفسها.

الثاني: توحيد الإجراءات وإخضاع كل طالبي الخدمة لها دون تمييز.

الثالث: التراتبية وتقوم على التناسب الطردي للصلاحيات والمسؤولية، وهذا من مواطن ضعف البيروقراطية، فالموظف البسيط الذي هو المشرف المباشر على تقديم الخدمة ليست له صلاحيات، وبالتالي لا يتحمل أي مسؤولية سياسية عن تردي مستوى الخدمة(موقع الجزيرة).

لكن الذي حدث أنه حصل تمازج مرضي بين المنصب والموظف، حتى حسبَ الموظف أن المنصب هو ذاته، وأنه يملك المنصب..! أما الأساس الثاني فقد انتهكته الواسطة وخرَّمته المحسوبية..! والسبب الثالث كان ضحيَّةً لعدم تمكين الموظف وبطء سير الإجراءات وعدم الإستعانة بالتقنيات الحديثة لتسهيل إنهاء الإجراءات.

ولا يمكن لأية دولة أن تقوم، ولا لأي اقتصاد أن ينمو، ولا لأي مجتمع أن يزدهر  والبيروقراطية كالفطريات تسدُّ شرايين الدماءِ في أجسادها لتعيق تدفُّق الدماء حتى تعمل بقية الأعضاء بكفاءةٍ وفاعلية. يقول رجل أعمال ومحلّل اقتصادي: " تحولت البيروقراطية إلى نوعٍ من أنواع المرض النفسي، أصاب الموظفين في الحكومة؛ إذ يشعر الموظف بنوع من الراحة النفسية كلما سمع توسلات المراجعين لإنهاء معاملاتهم. وكلما استطاع الموظف تأخير المعاملة لأطول فترة ممكنة، كلَّما سمع المزيد من التوسلات، وبهذا يشعرُ بلذةٍ أكثر". ويضيف:"لقد استغرق اعتمادُ خرائط لأحد مشاريعنا نحو ستة عشر شهراً وكانت ستأخذُ وقتاً أطول لولا تدخُّل رئيس الوحدة شخصياً".

لقد وجدَ بعض الموظفين الحكوميين في نظام البيروقراطية متنفساً لهم لممارسة السلطة والنفوذ على أصحاب الخدمات، والمصالح، وذلك من خلال الإبطاءِ، والتسويف، والعرقلة، وغير ذلك، لكن هل يتعلَّق الأمرُ بمصالحهم أيضاً..؟! هذا مستحيل بالطبع، فمصالحهم التي تُقضى في الجهات التي يعملون بها تسيرُ سيراً حميداً، وتُقضى بسلاسةٍ ويُسر لأن شبكة العلاقات الداخلية تؤدي دوراً فاعلاً في قضاء المصالح المشتركة..!

صحيح أن البيروقراطية تعني سلوكاً إدارياً إيجابياً يقصُدُ خلقَ نظامٍ متسلسل لاتخاذ القرارات وسير الإجراءات، لكنها تعقَّدت بسبب عدم استقامة الطبائع الإنسانية، وحرَّفت مقاصدها الرغبة في استحواذ السلطة والقرار وعدم التمكين، هذا فضلاً على أنها لم تعد تتناغم مع سرعة اتخاذ القرار في عالم سريع، ولا تملك المرونة المطلوبة لقضاء المصالح.

وهنا نتطرق إلى معنى الترشيق الخاص بالمؤسسات الحكومية فهو من وجهة نظري يتحققُ بثلاث أسباب هي: تقليل الأفراد، وتقليص المؤسسات، وإصلاح النظام الإداري، إذا لا تتحقق المنفعة المتعلقة بالترشيق دون الأخذ بهذه الأسباب الثلاثة مشتركة.

إذن فما لم يتم التخلُّص من البيروقراطية فإن جهود الترشيق ستظل معطَّلة، وأنَّ الجهاز الحكومي سيعاني من تعقيد في أداء مهامه بصورة تتسقُ مع طبيعة الحياة العصرية، مما سيبطيءُ النمو الاقتصادي، ويعطِّل حركة التطور الإنساني والعمراني.

وإذا كانت الحكومات تعملُ في أحد حلولها إلى ترشيق أجهزتها فتحيل المهمة إلى القطاع الخاص نظراً لأنها تثقل كاهلها، فإنِّ هذا يعتبرُ حلَّاً مناسباً لتسريع قضاء المصالح، على سبيل المثال لو أن اعتماد الخرائط قد تكفَّلت به المكاتب الاستشارية الهندسية لما تعطَّلت مشاريع تنتظر إعتماد خرائطها في الجهة المعنية لسنين طويلة!! وقس على ذلك الكثير من الخدمات والمصالح.

هذه قضية تحتاج إلى قرارات عُليا صارمةٍ جداً يقودها جهازٌ له صلاحياتٌ نافذة، ويتمتع برؤية عصرية متفتحة. إن البيروقراطية لا تُحلًّ عبر إحالة الكفاءات للتقاعد، ولا عبر دمج المؤسسات دون تقليص حجمها، ولا عدم المساس بالنظام الإداري، وإنَّما تحلُّ معضلة البيروقراطية بعكس ذلك كله..! أي الإستفادة من الكفاءات، وتقليص حجم المؤسسات الحكومية، وإصلاح نظام عمل الجهاز الحكومي.

إن البيروقراطية ليستَ قدراً يجبُ أن نسلِّم له بالتصبُّر واحتساب الأجر عند الله، وإنما هي تحدياً علينا أن نواجهه بتمكين الكفاءات، وجرأة القرارات، وسرعة الإصلاحات.